8 جمادي أولI, 1446


الحركة العلمية في مواسم الحج خلال القرن السادس الهجري

د. سليمان بن عبدالغني مالكي

المصدر: الدرعية: السنة الثانية – العدد السادس والسابع، ربيع الآخر – رجب 1420هـ / أغسطس – نوفمبر 1999م
مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 21/12/2010 ميلادي – 15/1/1432 هجري
الزيارات: 18885

   

    

الحركة العلمية في مواسم الحج خلال القرن السادس الهجريالدكتور سليمان بن عبدالغني مالكي[1]

الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسلام على أشرف المرْسلين سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحْبِه أجمعين.

 

وبعد:

فإنَّ الحج[2] ركن الإسلام المجمع عليه، وهو من أقدم العبادات التي عرفَتْها الإنسانيَّة منذ أن دعا إليه أبو الأنبياء إبراهيم – صلوات الله عليه – وأقام له أوَّل بيت وضع للنَّاس على أساس التَّوحيد لله – سبحانه – وكانت العرب تقوم بهذه الشَّعيرة فيما بين زمن إبراهيم وإسماعيل ورسالة ابنِهما – مجدِّد التَّوحيد الخالص بعدهُما – سيّدنا محمَّد بن عبدالله، عليه وعليْهما أفضل الصَّلاة وأتمُّ التَّسليم.

 

وتاريخ الحجّ في الإسلام كان يشكِّل بأهميته عنصرًا عظيمًا من عناصر التاريخ الإسلامي، وكان الحجَّاج المسلمون في الفترة – موضوع البحث قبل عهدِهم بالأسفار الجويَّة، أو السفن البخارية الحديثة – يتجشَّمون جميع أنواع المصاعب في أبلغ معانيها من حيث سفرهم، وتَصَدُّرهم من أقاصي الدنيا إلى البلاد المقدسة في كلّ عام لحجّ بيت الله الحرام، وزيارة مسجد سيّد الأنام – عليْه الصَّلاة والسَّلام – وهُم تحت ظِلال السُّفُن الشِّراعيَّة البدائيَّة الضَّعيفة في البحر، وعلى ظهور الإبل الهزيلة في البرّ، ومنهم مَن كان يفضِّل المشي لأداء هذه الشَّعيرة على الأقدام؛ حبًّا في مضاعفة مثوبته من الله – تعالى – على ما يقوم به من هذه العبادة العريقة في القِدَم، ومنهم مَن كان يريد الحجَّ وينْشَطُ إليه رغبةً في طلب العلم على عالم مشهور انتشر صِيتُه في كلِّ مكان، وجرى ذكره على كلِّ لسان، وسمع بقدومه الحجَّ في سنة من السِّنين.

 

وهذه الرَّغبة كانت متوفّرة من القديم وعبر السنين لمواسم الحج، ولاسيَّما عند طلاب العلم النجباء الَّذين تعوَّدوا الأسفار حبًّا لسماع وتحصيل معارفهم على عالم، أو علماء في جميع الأنحاء، وهؤلاء كانوا كثرة قدروا العلم في أهله حقَّ قدره، فأحبّوه، وأحبّوا سماعه على أئمَّتهم المشهورين بنبوغهم، وعلوّ قدرهم، وكثرة معارفهم، ودقَّة علومهم تدريسًا وتحديثًا وتصنيفًا[3].

 

وليس أدلّ على حرص العالم، أو المتعلم على العلم من أنَّ بعضَهم كان إذا فقد كتابًا، ولم يستَطِع الوصول إليه، أو الحصول عليه، نادى يوم الحجّ عليه، فيخبره مَن علم به[4].

 

ولعلَّ هذه الإشارة الخاطفة عن بعض أهمّيَّة منافع الحجّ قد ألْمحت إلى ما سنتحدَّث عنه في عجالة هذا البحث، ألا وهي دور الحجّ في تفاعُل الحركة العلميَّة من خلال روَّادها العُلماء الَّذين التقَوا في أمكِنة مشاعرِه المشْهورة وأزمنة شهوره المعلومة، والتِقاءاتهم هذه كانت في جَميع تزامن في مكان قد لا يتوفر لبعضهم الاجتماع ببعض في غيره[5]، ولعلَّ مشروعيَّة الحجّ انطلقت من فرضيَّة أدائه على مَن توفَّرت فيه شروطه إلى وجوب الاستِفادة من منافعه الكثيرة التي تحقّق ما تهفو إليه نفس المؤمن في دنياه، وتستهوي فؤاده في أخراه، وهذا مدرك من قوله تعالى: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ ﴾ [الحج: 28].

 

ومَن يتدبَّر أوامر الله – تعالى – في هذه الأيَّام يلمح أوَّل وهلة أنَّها للوجوب، فما بالك بمن يقف على معانيها؟ إنَّها تمتدّ ببلاغتها إلى مدارك أولي الألباب لتتناول كُنْه الحجِّ وأسراره وفروضه وواجباته في مناطق مشاعره، زيادة على منافع المسلمين التي تخصّ جَميع مناحي شؤونهم الدينيَّة والدنيويَّة السياسيَّة، والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والثَّقافيَّة، وثِمار هذه المنافع بلا شكٍّ كانت من وراء حكمة مشروعيَّة الحجّ الَّذي كان بأيَّامه المعدودة، وأمكِنته المحدودة بمثابة منتدى عامّ ضمَّ جموع المسلمين من كلّ حدب وصوب، على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم، وقد اجتمعوا على رباطٍ واحد وهو رباط الدّين، وأنعم به من رباط وحَّدَهم وجَمع شملهم، وعلَّمهم نبذ الفرقة وراء ظهورهم، وإحلال المودَّة والرَّحمة والعطف بين صفوفهم، من حيث تحويلُ سلبيَّات أفكاره، أو تصنيفاته إلى إيجابيات كانت في صالِح الحركة العلميَّة نموًّا وازدهارًا.

 

أيضًا كان من ثِمار هذه اللِّقاءات أن تبادل كلُّ حاجٍّ مع أخيه خبراته الَّتي اكتسبها من حضارة بلادِه الَّتي عاش فيها، وهذه الخبرات أنواعها شتَّى، من علوم أو فنون كانت أوقع وأكثر نفعًا للمستمع، أو الدَّارس، إذا كان المسمع أو المدرس ممَّن اشتهروا بنبوغِهم فيها أداء، أو تدريسًا وتحديثًا، والعلوم المناطة بالدّراسة – يومئذ – كانت العلوم الدينيَّة والعربيَّة، وأمَّا العلوم العقليَّة ودراستها، فقد قلَّ المشتغِلون بها في مواسم الحجّ وغيرها[6].

 

فقليلاً ما يذْكر المؤرّخون أنَّ عالمًا درس الشعر، أو المنطق، أو الفلسفة من سائر العلوم العقليَّة[7] بخلاف العلوم الدينيَّة، أو العربيَّة ومدارستها، فقد كان مألوفًا أن يردِّد المؤرِّخون، ورجال كتب الوفيات دائمًا في حديثهم عنْها قائلين (وفيها توفي.. وكان شيخًا جليلاً وإمامًا عالمًا فاضلاً… منعكفًا على العبادة.. والاشتغال بالله تعالى.. سمِع من.. وتوفِّي..

 

– أو الإمام الزَّاهد نشأ بمكَّة.. ورحل في طلب الحديث.. وسمع من.. وكان شيخًا عالمًا.. عارفًا..)[8].

 

وما أودّ التنويه إليه في هذا الصَّدد أنَّ مدارسة هذه الموادّ سواء كانت في حلقات علميَّة حامية، أو مناظرات حادَّة دارت بين علماء أفْذاذ مشهودٍ لهم في عصرهم من أقرانِهم، وهم مذكورون ضمن مصنفات بعضهم كانوا يبحثون في هذه أو تلك، مسائل عقائدية كثيرًا ما كان يدور حولها الجدل، وعلى الرغم من هذا وكثرة النقاش وطوله وشدَّة احتِدامه لكن في النّهاية كانوا يخرجون منها على وفاق لا شقاق، اعتصامًا بحبل الله المتين وسنَّة نبيِّه الكريم[9].

 

ولا حاجة بنا أن نؤكِّد أنَّ الحلقات العلميَّة والمناظرات في الحرمَين الشَّريفَين خلال مواسم الحجّ كانت مستمرَّة لا تنقطع، وهذا ليْس بِجديد على هذه الفترة بل كان قديمًا منذ أن كان النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فيها معلِّمًا.

 

وتألُّق الحرمين الشريفين في حلقاتهما العلمية بروَّاد هذه الحركة وتبايُن معارفهم لم يكن من خلال مَن تحلَّقوا فيها من أشهر الدَّارسين والمدرِّسين، والقارئين والمقرئين، أو السَّامعين والمسمعين.

 

بل كان أيضًا من خلال توْفير الكتب ونسخها، وبخاصَّة في وقت لم تعرف فيه المطابع حينئذ، ولولا عمليَّة النسخ ما حفظت الكتُب ولا بقيت حتَّى يومِنا هذا، ولا خرجت إلى روَّاد هذه الحركة محقَّقة، ومقارنة بأصلها.

 

ونشاط هؤلاء بلا شكٍّ قد أسهم في ازدِهار هذه الحركة، ومع أنَّ المصادر قد أغفلت تواجدهم بأهم المراكز العلمية بمكَّة، كالرباطات والمدارس، إلاَّ أنَّنا لا نستبعد وجودَهم فيها حيثُ توافرتْ فيهما الكتب[10]، ولأنَّهم أيضًا كانوا بالمسجِد الحرام فيها شاهدهم ابن جبير بجوار الكعْبة الشَّريفة بوفْرة أعدادهم عندما دخل البيت الكريم في حجِّه عام 579هـ، وعندما وصف الكعبة، وما يتَّصل بجدرانِها من مصاطب قال: “ويجلس فيها – أي المصاطب – النسَّاخون، والمقرِئون… والحرم محْدق بحلقات المدرِّسين وأهل العِلْم..”[11].

 

أيضًا كانت هذه الحلقات تتأرْجح زيادة، أو كثرة تبعًا لشهرة الشَّيخ القائم على الدَّرس، ولاسيَّما كبار العلماء المشهورين بنبوغهم وذيوع صيتهم، وكثيرًا ما كان يدور البحث عنهم والاستِدلال عليهم من طلبة العلم، فإذا حجُّوا كانوا متحلّقين في حلقاتهم رغبةً في تحصيل معارفِهم على أيديهم، وسط الجوّ الروحي الَّذي أظلَّهم بالحرمين الشَّريفين، إضافة إلى مضاعفة الثَّواب من الله تعالى لكلِّ عمل يؤدَّى فيهما.

 

ويهمُّنا في البداية أن نُشير في إيجازٍ إلى تتبُّع هذه الحركة على طريق ركب الحجيج ومنازله، لنرى إلى أيِّ مدى كان نموها وثراؤها وزيادة معارفها، من خلال مشاعل نورها من العلماء، والخطباء والوعاظ، الذين أسهموا في ازدهارها على طريق الحجاج، ومحطات نزولهم، ويطالعنا في هذا المقام شيخ حران[12] – ت 622هـ – ومعلوم من ألقابه وصفاته العلمية العديدة أنَّه الفقيه فخر الدين أبو عبدالله محمَّد بن القاسم الحراني، عالم مكَّة وخطيبها، وواعظها الَّذي برع في معارف دينية شتَّى، وبخاصَّة اشتغاله بمذهب الإمام أحمد حتى بَزَّ فيه أقرانه، وجمع تفسيرًا حافلاً في مجلَّدات كثيرة أهَّلته لأن يكون في صدارة الفقهاء، والتَّدريس والفتيا، زيادة على إخْلاصِه في كثْرة عِظاته الَّتي لا يملُّ عن التَّذكير بها في أوْساط الحجيج، وخُطَبه المشهورة المنسوبة إليْه في طريق حجِّه ذهابًا وإيابًا، وفي عودته إلى بغداد جلس بباب بدْر للوعظ بعد وفاة شيخه أبي الفرج الجوزي[13]، وبالجملة فقد تألقت دعوته كغيره من العلماء على منازل دروب الحاج زيادة على تواجده بين الحجَّاج في الحرمَين وأمكنة المشاعر واعظًا ناصحًا، مرشدًا[14].

 

وإشارات المؤرِّخين في هذا الصَّدد كثيرةٌ لا نستطيع في هذه العجالة أن نبسط عنهم قولاً، ولا لمجموعهم عدًّا، لكنَّهم كانوا على الحركة ازدهارًا على دروبِهم، أو مناطق حجِّهم، ولا أدلَّ على ذلك من كثْرة العلماء في حجِّ موسم عام 573هـ، وقد اصطحبهم الوزير أبو الفرج محمد بن عبدالله بن المظفر حين طلب الحجَّ من الخليفة المستضيء، وبعد أن أذِن له خرج في جمع كبيرٍ من العلماء، ومعه ستُّمائة جمل لحمل المنقطعين، واصطحب معه جمعًا كبيرًا من الزهَّاد، وبيمارستانًا لعلاجهم، وكان العلماء معه مصدر فتوى له ولحجَّاج موسم هذه السنة[15].

 

ونلاحظ أيضًا كثرة الفقهاء الَّذين خرجوا من غيانة[16]، وانضمُّوا إلى نظرائهم من حجَّاج موسم عام 580هـ، واصطحبهم في هذا الموسم أبو العتيق أبو بكر بن الشَّيخ يحيى الغباني، وكانوا ثلاثمائة فقيه يسايِرونه بين أوْساط الحجيج في ذهابهم وإيابهم، فكانوا مشاعل نور وهداية[17].

 

ولا يفوتُنا أيضًا أن نذكر تجمُّعهم، والتقاء وفودِهم من مشرق العالَم الإسلامي ومغْرِبه قبل رمضان في مِصْر، وسماعهم على كبار علمائهم، وجهابذة فقهائها على كثرتهم وتبايُن معارفهم، ممَّا كان له تأثيرٌ في نموِّ هذه الحركة[18].

 

وقد كان على مثال مَن ذكرنا ناصحًا ومرشدًا، وواعظًا بينهم على امتداد دروبهم، ولا يملُّ من دعوته: الشَّيخ موفق الدّين عبدالله بن محمَّد بن أحمد بن قدامة المقْدسي الحنبلي عالم المذْهب، وصاحب التَّصانيف المشهورة، وله في المذْهب اليد الطُّولى، وتجلَّت معارفه فيما درج عليه غيره ممَّن ذكرنا، ققد كان مرافقًا لركبهم في ذهابِهم وإيابهم، داعيًا وموجهًا، اختاره القاضي الفاضل لهذه المهمَّة في حجِّه عام 574هـ من مصر، وعاد إلى الشَّام[19].

 

وفي العام الذي بعده حجَّ أيضًا القاضي الفاضل – ت 596هـ – لكنَّه عاد إلى مصر عن طريق البحْر، فقاسى في الطَّريق أهوالاً[20].

 

أيضًا حجَّ ابن جبير من مصر عن طريق عيذاب في عام 579هـ، وعاد في صُحْبة الرَّكب العراقي إلى بغداد، وطوَّف في سائر البلاد[21].

 

وتظلّ الحركة العلمية مصاحبة لهم على امتداد طرقهم التي زخرت بما عليها من منازل، ضمَّت مساجد وغيرها من روافدَ ثقافيَّة كانت معدَّة لاستقبالهم، وهذه المنازل كانت غاصَّة بعلماء الرَّكب، وأمير الرَّكب، وقد كان من أهمِّ مهامِّه أن يكون عالمًا عاملاً، ولاسيَّما بخُطَب الحجّ لأنَّ وظيفته من أجلِّ الوظائف الدينيَّة يومئذ، أيضًا كان عليه أن يقِف بالدَّليل والركب لأداء الصَّلوات الخمس على أوقاتها، ثمَّ يأمر مناديه لحجاج ركبه، وملحقاته، ويؤمُّهم من رجال العِلم إمام مستقلّ كعادة أمراء الحجِّ على ذلك قديمًا[22].

 

ومهمَّة أمير الحج كانت عالقةً بأذْهان مَن يسعى إليها، فقد كانتْ عليْها المنافسة، ومناظرة بعضِهم لبعضٍ فيما يريح الحجيج عمومًا، أمنًا في طرقهم، وعلمًا في مناسكهم بُغْيَةَ الحصول عليها؛ لأنَّها ترفع من قدرهم، وتزيد من شأنهم عزَّة وحماية ومنعة[23].

 

ومن أعوان القاضي[24] ويسمَّى قاضي المحمل وشرطه أيضًا أن يكون عالمًا بالفقه إذ كان يتولى الفصل بين المتنازعين في الأمور الشرعية، وتنصيبه لهذه المهمة الشريفة كانت من ولي الأمر، وقيل: يختاره أمير الحاج من العرب ليحكم بين حجَّاج الركب حكمًا شرعيًّا بعد أن تُحال إليه الأمور الشَّرعيَّة، وعمله كان مستمرًّا في ذهابه وإيابه[25].

 

وإضافة لهذا الأمير ومُعاونيه ومُوظَّفيه كان العلماء الرحالة الأدباء الذين كانوا في صحبة الحجَّاج، وقد أتاحت لهم هذه الدُّروب فرصة الأخْذ والعطاء، وقدِ انفردوا أكثرَ من غيرهم بتسْجيل مشاهداتِهم في البلاد والمحطات التي مروا بها، أو نزلوا فيها فكتبوا عن العمران، وسجلوا مرائيهم عن البيئات، وأفاضوا في وصف هذه الطرق، ولم يتركوا شاردة، أو واردة عن منازلهم إلاَّ سجَّلوها ضمن مؤلَّفاتهم الَّتي أصبحت تراثًا خالدًا لِمَن أتَى بعدهم، وعلى ضوئها استطاع الحجَّاج وغيرهم كالتجَّار أن يتغلَّبوا على مشاقّ هذه الرحلة، أو التَّقليل من عنائها وتعَبها وبخاصَّة أنَّ هذه الرحلة كانت متكرّرة سنويًّا، أو على مدار السَّنة إن لم تكن للحج فهي للعمرة أو التجارة، ولا ننسى أنَّها كانت ضرورية، أو شبه إلزامية، وبالنسبة لأولي العلم كانت أكثر؛ فهم الَّذين كانوا يمكثون بها وقتًا طويلاً انطلاقًا منها، أو عودة إليْها.

 

وهؤلاء الرَّحَّالة وغيرهم ممَّن تعوَّدوا الأسفار إلى أقصى الأقطار حبًّا في الالتِقاء بأشهر علمائها، كانوا يرون أنَّ علومهم لا تكتمل إلا إذا رحلوا شرقًا أو غربًا، لمناظرة العلماء أو التعمّق في مصنَّفاتهم؛ ولذلك كانوا أكثر من غيرهم نفعًا لهذه الحركة.

 

وتأكيدًا لِما ذهبنا إليه يقول ابن خلدون بصدد تصدُّر المغاربة مع غيرهم من مصر[26] في حجِّهم إلى البلاد المقدسة:

“وأمَّا مالك، فاختصَّ بمذهبه أهل المغرب لما أنَّ رحلتهم كانت غالبًا إلى الحجاز، وهو منتهى سفرِهم، والمدينة يومئذ دار العلْم، فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب، والأندلس، ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهْل العراق، فكانوا إلى أهل الحجاز أمْيل”[27].

 

وعلى ذلك نستطيع أن نقرّر بأنَّ هذه الرحلة ودروبها قد فاقت كلَّ ما يدور بخلد الإنسان نهضة في معارف شتى، فقد التقى فيها علماء التَّفسير والحديث، والفقه، والنحو والأدب، وحتَّى من ضمَّتهم في جنباتها من التجار الَّذين امتهنوا الأسفار، واشتغلوا فيها بالمرابحة العامَّة جريًا وراء العلم وتحصليه، والمال وتوفيره، فالتجارة أحيانًا كانت بقصد العلم؛ إذ لم يكن هناك مانع من أن يكون التاجر مقرئًا، أو محدِّثًا، أو فقيهًا، فالدَّعوة الإسلاميَّة في الأقْطار الإسلاميَّة المتفرِّقة كان من دعاتها التجَّار، أيضًا فالمعارف والأخبار والكتُب – في عصْر لَم تعرف فيه الطباعة ولا غيرها كوقتنا الحاضر – كانت تنقل كلّها ضمن قوافل ركبانهم، أو سفنهم، وهؤلاء – إضافة إلى كتاب الرحلات – كانوا مصدر نور، ومعرفة لاسيَّما إذا علمنا أنَّهم كانوا إذا نزلوا محطَّة التفَّ حولهم أهلها من التجَّار والعلماء، فالتجار يتبادلون معهم التجارة بيعًا وشراء، والعلماء ينهلون من مشاربهم سماعًا عنهم، وقراءة عليهم، هذا وزيادة على مساهمتهم مع غيرهم في الوعْظ والإرشاد لِمَن جهل أحكام هذه الشَّعيرة من الحجَّاج، ومن خلال ذلك يتأكَّد لنا أنَّ دروب الحاجّ على الرَّغم من قسوتِها وامتدادها، وقسوة الأعْراب المحيطين بها، وعلى منازلها – وبخاصَّة في فترة هذا البحث – إلاَّ أنَّها كانت بمثابة جامعةٍ طرَق أبوابَها العلماء والطلاب، والتقوا في رحابها.

 

فأسهمت في تعْمِيق ثَقَافات هؤلاء، وأولئك، وهذا تراثهم الماثل أمامنا الخالد بين أيدينا نستمد منه المادة العلمية التي نبني عليها مختلف دراستنا دينية، أو أدبية، أو تاريخية، أو جغرافية[28].

 

وإثر انتهاء هذه الرحلة إلى البلاد المقدسة نتوقف مليًّا لنجد إجابات لعلامات استفهامية تدور بخلدنا ولماهيَّة هذا البحث الدَّاعية إلى الاختصار لم نشر إليها، وتعظيمًا للفائدة نقول: هل أثرت الكوارث المتتابعة التي أرادها الله بسبَب عوائق على الحجَّاج المسلمين، وقلَّلت من حماسهم لحجّ بيت الله الكريم، وحالت دون أن يحجَّ عشرات الألوف كلّ عام؟ (كان ذلك يحصل لحجَّاج بيت الله الحرام، والناس لا يمنعهم عنه مانع، ولم يسمع أنَّهم انقطعوا في سنة من السنين)[29].

 

وسرعان ما ينسى الحاجُّ أهوال ما وجد من صعاب وأهوال إذا ما تذكَّر أنَّ هذا قدره من قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27].

 

وأنَّ ثواب هجرته إلى الله تعالى هي خيرٌ له؛ لأنَّها إليه – سبحانه وتعالى – وتنعكس عليه لتُجَدِّدَ حياته برؤْيَة الكعبةِ التي ينسى أمامها جُوعه، وينسى عُرْيَهُ، وينسى ظَمَأهُ، بل وينسى أحْبابه وأهلَه الَّذين خلفهم في أقاصي بلاد الدنيا ليهتفَ مع عشرات الألوف من الحناجر الهاتِفة: “لبَّيك اللهمَّ لبَّيك، لبَّيك لا شريكَ لك لبَّيك…”.

 

وبعد سماعه ومشاركتِه هذه التَّلبية التي تأخذ بالألباب وتثير المشاعر، تصغر الدنيا أمامه وتَهُون، وسرْعان ما تُطْوى – بما فيها من متاعب وعقبات – ليبقى هناك أمرٌ واحد فقط، وشخص واحد فقط، إنسان في ثوب أبيض، وبقلْب أبيض، يطوف حول البيت الَّذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا[30].

 

ازدهار الحركة العلمية أثناء مواسم الحج:

بعد أن تتبَّعنا الحركة العلمية، وعلاقتها بجموع الحجاج، ومعايشتها لهم في مناطق تجمعهم، أو على طريق دروبهم، نستطيع أيضًا أن نتتبَّع خطاها أيام المواسم التي بلغت أوْج ازدهارها على يد مشهوري علمائها، وليس أدلّ على ذلك من تكرار حجَّاتهم التي بلغت لبعضهم أكثرَ من ستين حجَّة – كما سنرى – ومن موقع شهرتهم العلميَّة، وتصدُّرهم للفتيا لم يكن على المسلم إلاَّ حجَّة واحدة لله تعالى في عمره إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً، وما زاد عند الأئمة فسنَّة، ومن اجتهادات السنَّة أنَّ من أدى فرضه، ووجد سعة تكفي إطعام الأكباد الجائعة أولى من ذهابه إلى بيت الله الحرام.

 

وعليه؛ فكثرة حجَّاتهم بعد الفريضة إنما كانت بقصد العلم، وهو فريضة على كل مسلم ومسلمة، وأفضليته مدركة من الكتاب والسنة، ويحمل كلّ منهما في طياته أبلغ بيان على تصوير فضله، وحاملي مشاعل نوره في نشره، وتوجيه المسلمين لدراسته، ورفع منار الإنسانية في كل مكان والدعوة إلى العمل والعرفان، والآيات الكريمة، وأحاديث الرسول – عليه السلام – كثيرة سردها يطول، وقد تخْرِجنا عن مضمون قصدنا في هذا المضمار الذي يدعونا إلى الاختصار، لكنها – على أي حال – تصور فحوى ما اتصل بموضوعنا.

 

وإن هؤلاء النابغين إنَّما أرادوا الحج، وقصدوا العلم وبذلك يكونون قد جمعوا بين الحسنيين، ولاسيَّما في هذا المقام الروحاني المنيف، ولا حاجة بنا أن نؤكِّد أنَّ بعضهم إذا فقد كتابًا لم يستطع الوصول، أو الحصول عليه كان يذهب إلى الحج مناديًا عليه أيام الحج، فيخبره من علم به[31].

 

وحتى تبرز هذه الحركة في حجمها الحقيقي رأيت أن أتتبع خطاها بذكر عدد من روَّادها أيام الحج، ومَن لم نذكرهم من نظرائهم لا يقلون شأنًا عنهم بل قد يتفوق بعضهم على بعض من ذكرنا، ولكن قد يجمع بينهم كثرة المساهمة في المسموعات والإسماع تدريسًا وتحديثًا وتصنيفًا من هؤلاء:

• أحمد بن علي بن أحمد العُلبي – أو العلني – الإمام المقرئ المحدث، ومن خلال حجاته الكثيرة، ومشاركته من خلال ما بثَّه من معارفه بحرمي مكة والمدينة وأمكنة المشاعر، واستفاد منه إخوانه الوافدون والمجاورون، وأهالي الحرمين، وطلبة العلم أيضًا بالرباطات والمدارس وغيرهما، وتوفِّي بعد أن شهد عرفة محرمًا في عشية الأربعاء يوم عرفة في أرض عرفة، وحمل إلى مكة، فطيف به، ودفن يوم النَّحر بجوار قبر الفضيل بن عياض سنة 553هـ، حسب أمنيته في الدفن بجواره[32].

 

وإذا فقدت الحركة العلمية أحد مشاهيرها، فقد بقي ازدهارها على يد إخوانه الأفذاذ في العام نفسه الَّذي توفّي فيه (العُلبي) السابق وهو الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي البكري الحنبلي، وهو الذي ذاع صيته وكثرت مواعظه في موسم الحج سنة 553هـ، وهو شيخ مَن مرَّ معنا من قبل، وهو فخر الدين أبو عبدالله محمد بن خضر الحراني الذي بث مسموعاته عن شيخه بعد موته، وابْن الجوزي تعدَّدت أنشِطته بالحرمين والمشاعر، وتصديه لسائر البدع السائدة بالحرمين، وما كان عليه المسلمون من خلق لا تتناسب مع هذا الدين، وقدسية البلد الأمين، وزيادة على ذلك، فقد ذكر في كتابه “صيد الخاطر”: “حججت إلى بيت الله، فامتلأ قلبي منه هيبة، أو رهبة”، ويواصل فيقول: “كنت أنظر إليه – أي إلى البيت – تارة بعين الهيبة، فيشتدّ تعظيمي له، وتارة بعين لطف مالكه، فأزداد بالبيت أنسًا”؛ أي: أنس العبد ببيت سيّده، ثم يواصل حديثه عن أهل هذا البلد، وهو في أشدّ العجب من سوء تصرفهم، وقبح مسلكهم قائلاً: “فسبحان من أسكن حرمه مثل أولئك!”، ولم ينس عبيد مكة في سلبِهم لأموال الحجَّاج[33].

 

أمَّا يوم الجمعة في الحرم الشريف، فقد رأى عجبًا يستحقّ الذكر، والتنويه على خطورته كدخيل على عقيدتنا السمحاء التي حفظت على المساجد – ولاسيَّما الحرم الشريف – قدسيتها بمنع التشويش على المتعبدين فيها.

 

وذلك من خلال إشارته إلى من حملوا المقارع بين يدي الخطيب، فأنكر هذه، وما سبقها، وأنذر بالوعيد لِمَن حاول الوقوع فيها؛ لأنها لا تتناسب وقدسية المكان ومتعبديه[34].

 

وتعظيمًا للفائدة نلفت نظر القارئ – ولعلَّه معنا – في أنَّ الأذان إنَّما يعني الإعلام الشَّرعي لتنبيه الغافل وتذْكير السَّاهي عن دخول وقت الصَّلاة وإقامتها، وعلى الرغم من شروطه، وفضله في التخلّص من الشيطان وشره، أيضًا أهمّية المؤذن وعظيم مثوبته[35] إلاَّ أنَّ أربابها، وبخاصَّة في الحرم كانوا في الدَّعوة إليها على خلاف ذلك، وتحوَّلت عندهم فكانت أشبه بعادات منها إلى عبادات، وهذه البدع وغيرها كانت سائدة بالحرم في هذه الفترة وغيرها، وكيفية الأذان شاهدها ابن جبير في هذه الفترة وأثناء حجّه سنة 579هـ.

 

فمن أعلى قبَّة زمزم كانت ترسل من المؤذنين أحرّ الدَّعوات في استقبال أمير، أو سلطان من خلال ما أعدّ له مناسبًا في هذا المقام بألفاظ مسجوعة، أو بشعر موزون قال عنه ابن جبير وغيره كالتجيبي، وابن بطوطة وغيرهما: “في إثر كلّ صلاة مغرب يقف المؤذّن الزمزمي في سطح قبَّة زمزم رافعًا صوته بالدّعاء للإمام العباس أحمد الناصر لدين الله، ثمَّ للأمير، ثم لصلاح الدين وجهات مصر كلّها”[36].

 

وجاء هذا الدعاء مكررًا عند التجيبي فبعد حذف الناصر ومكثر ذكر صاحب الديار المصرية، وأمير مكة في وقته: هو أبو نمي[37].

 

أيضًا كان المؤذنون يسيرون مع الخطيب إلى المنبر اثنين على جانبيه، ورئيسهم أمامه، وبعد اعتلائه المنبر كانوا بين يديه، وبعد جلوسه ينادون بالأذان على لسان واحد[38].

 

ومشاهدة ابن جبير لهم كانت أيضًا في خطبة عيد الفطر، وكانوا جلوسًا دون الخطيب في أدراج المنبر يكبِّرون بتكبيره حتى يفرغ من خطبته[39].

 

وبالطبع فهذه العادات كانت صدى لعادات أمصار إسلامية أخرى مجاورة منافسة على بلاد الحجاز في نواح شتى سياسيًّا، واجتماعيًّا واقتصاديًّا، ودينيًّا، وتعود في مجملها إلى زمن سيطرة البويهيين على بغداد في القرن الرابع الهجري، ثم تأكَّدت، وزادت رسوخًا بعد أن ثبَّتها في الأذهان الفاطميون في مصر حتَّى صارت تقليدًا متَّبعًا، وسائدًا ليس في بلاد الحجاز فحسب بل في سائر البلاد الإسلامية الأخرى[40].

 

وما ألمحنا إليه كان مثار نقد من الحافظ ابن الجوزي وغيره من العلماء الذين تصدَّوا لإخمادها، وإماتتها، وهذا كان يتطلَّب من المتصدي لها أن يكون عالمًا بها مستمرًّا بعمل متواصل من خلال هذه الحركة ليواجه ما أثير حول العقيدة، وما أدخل عليها من أفكار غريبة هي منها براء، ولذلك كانت تقام المناظرات بحدتها المتأججة، والتي كانت تعايشهم بعد حجهم، وكثيرًا ما كان حجّهم مرَّة ومرَّات إلاَّ لإثارتها وجهًا لوجه بين مؤيديها ومعارضيها، وكأنهم حين يقيمون مناظراتهم في مثل هذه الأمور في معركة فاصلة بين الحقِّ والباطل لكنهم في النهاية كانوا على قلب واحد في محبة ووئام يجمعهم رباط الدين، ومعتصمين بحبل الله المتين في بلد الله الكريم.

 

لأن هذه المناظرات الهادفة، وما كان يُثار فيها من نقد بنَّاء لم تكن وليدة هذه الفترة بل كانت أيضًا قديمة، فحين حجَّ عثمان بن عفان سنة 29هـ، ضرب فسطاطه في مِنى، وأتم الصلاة فيها، وفي عرفة، فانتقدَّه الناس لأنه لم يقصرها كالعادة، وكان ذلك أوَّل نقد – بمثل هذه الحالة – في الإسلام[41].

 

ونعود مع الحركة في تألقها بروَّادها في أرجاء الحرم، فبعد ظاهرة الأذان انتقلت إلى تعدُّد الإمامة بالحرم، ومجمل هذه الظاهرة أنَّها شكَّلت رأبًا في صرح الجماعة وترابطها، فكان كلٌّ له مذهب إمامه الخاص في مكانه الخاص بالحرم، وقد نسي هؤلاء وأولئك قدسية المكان، والحكمة من مشروعية الجماعة، ومن خلال إشارات المؤرِّخين في هذا الصدد نعلم أنَّ أوَّل الأئمَّة السنّيَّة في الحرم هو الإمام الشَّافعي لأنَّه المقدم من قِبل أولي الأمر في مصر، ولأنَّ مذهبه كان أكثر انتشارًا في مصر والشَّام[42] ومكانه خلف مقام إبراهيم – عليه السَّلام – وكان أوَّل مَن يصلي، إلاَّ صلاة المغرب فإنَّ الأئمة الأربعة يصلونها جميعًا في وقت واحد لضيق وقتها، فيبدأ مؤذن الشَّافعي بالإقامة، ثمَّ مؤذنو سائر الأئمة.

 

وترتّب على هذه الكيفية بُطلان الصلاة أحيانًا لأنَّ اجتماع التَّكبير فيها من كل جانب، كان يحدث سهوًا كثيرًا لركوع جماعة بركوع أخرى، أو يسلم أحدُهم بغير سلام إمامه.

 

ثمَّ بعد الشَّافعي يصلي المالكي تجاه الركن اليماني، ثمَّ الحنفي تجاه الميزاب، ثمَّ الحنبلي، وصلاته مع صلاة المالكي في حين واحد، وموضع صلاته بين الحجر الأسود والركن اليماني.

 

في تلك الفترة ما كان بمصر وبلاد الشَّام من مذاهب كان سائدًا في بلاد الحجاز، ولقد حرص سلاطين الأيوبيِّين على انتشار المذهب الشافعي في أرجاء دولتهم، يتلوه المذهب المالكي، فالحنفي، فالحنبلي، ثمَّ ازداد أنصار المذهب الحنفي بعد ذلك أيَّام العثمانيين لأنَّه صار المذهب الرسمي للدَّولة[43].

 

لكنَّ أمراء الحرمين في تلك الفترة وما بعدها كانوا في مكَّة من الشيعة الزَّيدية، وفي المدينة من الشيعة الإمامية، ومشكلة اختلاف المذهب بين حكام الحجاز وسلاطين مصر قد كانت لها انعكاساتها السلبيَّة على السّنيين في مكة والمدينة؛ لأنَّ المناصب الدينيَّة وبخاصَّة في المدينة كانت من الشّيعة، ولم يكن للسنِّيين أيام المنصور قلاوون إلاَّ أن يطالبوا بسنِّية هذه المناصب، فعيَّن منهم قاضيًا بالمدينة سنة 682هـ هو عمر بن أحمد بن الخضر بن ظافر بن طراد، وهو أوَّل أئمَّة المدينة وخطبائها وقضاتها، ولكنَّه وجد من ويلات الشيعة ألوانًا من العذاب، ولكن الأمر والنَّهي والسلطة في أغلب الأمور كانت للشيعة، ومَن لاذ إليهم من السنيين[44].

 

وشاهد ابن جبير هذه المذاهب بالحرم الشَّريف، وقال: “وأكثر هذه الجهات الحجازيَّة وسواها فِرَق وشِيَع قد تفرَّقوا على مذاهب شتَّى” ثمَّ قال: وللحرم أربعة أئمَّة سنّيَّة، وإمام خامس لفرقة تسمَّى الزيدية، وأشراف أهل هذه البلدة على مذهبهم، وهم روافض سبَّابون”.

 

أمَّا إمام الزيدية الخامس بالحرم، فكان موقفه بين الرّكنين اليمانيّين ويُصَلّي بطائفة من الروافض أي الزيدية الشيعية، ومعهم أمير مكَّة وحواشيه وقرابته، وهم لا يُجَمّعُون؛ أي: لا يصلّون يوم الجمعة بالحرم ويصلُّون الظهر أربعًا، وعلماء مكَّة يعلمون هذه البدعة، وغيرها – كالأذان وغيره – ولا يستطيعون تغْييرهم لأنَّ أمراء مكَّة على مذهبهم، وعن صلاتهم المغرب، فكان بعد فراغ الأئمة الأربعة من صلاتهم[45].

 

وعن حكم صلاة الأئمَّة الأربعة على هذه الكيفية، فقد أفتى علماء المواسم في الحج، في عامي 550 – 551هـ، ففي موسم حجّ العام الأوَّل حجَّ الإمام أبو القاسم عبدالرحمن بن الحسين بن الحباب المالكي بشتَّى معارفه، وزيادة على تواجُده بين الحجَّاج واعظًا، ومفتيًا، ورئيسًا لحلقاته العلميَّة الزَّاخرة بالعلم والمتعلم، وتصدّره للفتيا، فقد أفتى بمنع الصلاة لأئمَّة متعدّدة، أو جماعات مرتّبة بحرم الله الشَّريف، وبعدم جوازها على مذاهب الأئمة الأربعة، وقد ذكر ابن فهد هذا الخبر تحت (فتوى بمنع تعدد الجماعة