1 ربيع أولI, 1446
بسم الله الرحمن الرحيم
علي في كل عام ومع قرب انتهاء شهر رمضان المبارك وقيام الناس بإخراج زكاة الفطر يكثر الحديث بين المسلمين حول قضية إخراج زكاة الفطر قيمة، وهل تجزئ أم لا؟
وسوف نتناول هذه المسألة بشيء من التفصيل فنقول وبالله التوفيق:
اتفق الأئمة مالك والشافعي وأحمد على وجوب إخراج زكاة الفطر عينًا ولا تجزئ القيمة في الزكاة وهذا هو الرأي الراجح في المسألة وذلك للآتي:
1- أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: «فرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – زكاة الفطر صاعًا من تمر, أو صاعًا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين, وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة».
قالوا: إن الزكاة قربة وعبادة مفروضة من جنس متعين، فلا يجزئ إخراجها من غير الجنس المتعين، كما لا يجزئ إخراجها في غير الوقت المعين.
2- إن إخراج القيمة مخالفٌ لعمل الصحابة – رضي الله عنهم – حيث كانوا يخرجونها صاعًا من طعام، وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي». وقد روى البخاري عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: «كنا نعطيها في زمان النبي – صلى الله عليه وسلم – صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير أو صاعًا من زبيب».
3- النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يذكر القيمة ولو جازت لبينها فقد تدعو الحاجة إليها، وسكوته يدل على عدم جوازها إذ السكوت في مقام البيان يفيد الحظر.
4- القاعدة العامة أنه لا ينتقل إلى البدل إلا عند فقد المبدل عنه، وأن الفرع إذا كان يعود على الأصل بالبطلان فهو باطل، فلو أن كل الناس أخذوا بإخراج القيمة لتعطل العمل بالأجناس المنصوصة، فكان الفرع الذي هو القيمة سيعود على الأصل الذي هو الطعام – بالإبطال فيبطل.
5- في الأخذ بهذا الرأي خروج من الخلاف، وقد استحب العلماء الخروج من الخلاف في المسائل المتنازع فيها. اعتراضات والرد عليها: اعترض البعض على هذا الرأي الراجح بعدة اعتراضات مردود عليها، وهي:
أولاً: عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «اغنوهم – يعني المساكين – عن الطواف في هذا اليوم». [رواه سعيد بن منصور وضعفه الألباني في الإرواء 3/332]. الرد عليه:
1- الحديث ضعيف من جهة.
2- أن دفع حاجة المساكين وسد خلتهم مقصود لكنه ليس هو كل المقصود، فقد قال الغزالي – رحمه الله -: «واجبات الشرع ثلاثة أقسام: قسم تعبد محض، كرمي الجمار والغرض منه إظهار عبودية العبد، وقسم المقصود منه حظ معقول، كقضاء دين الآدميين، فيتأدى الواجب فيه بوصول الحق للدائن، وقسم قصد منه الأمران جميعًا. حظ العباد وامتحان المكلف بالاستعباد، فإن ورد الشرع به وجب الجمع بين المعنيين ولا ينبغي أن ينسى أدق المعنيين وهو التعبد، والزكاة من هذا القبيل.
ثانيًا: أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – لما استخلف كتب له حين وجهه إلى البحرين كتابًا فيه: «ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده وعنده حقة فإنه تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين أو عشرين درهمًا». قالوا: لما جاز أخذ الشاة بدل تفاوت سن الواجب جاز أخذ العوض بدل الواجب.
الرد عليه: قال الشيخ عطية سالم – رحمه الله -: «ليس هذا دليلاً على قبول القيمة في الزكاة بل جعل الفرق لعدم الحيف، ولم يخرج عن الأصل، وليس فيه أخذ القيمة مستقلة بل أخذ الموجود ثم جبر الناقص، فلو كانت القيمة بذاتها وحدها تجزئ لصرح بها – صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز هذا العمل إلا عند افتقاد المطلوب، والأصناف المطلوبة في زكاة الفطر إذا عدمت أمكن الانتقال إلى الموجود مما هو من جنسه لا إلى القيمة وهذا واضح».
ثالثًا: أخرج البخاري تعليقًا عن طاوس أن معاذًا – رضي الله عنه – قال لأهل اليمن: ائتوني بعرض «ما عدا النقدين» ثياب خميص
[الصفيق من الثياب] أو لبيس [أي ملبوس] في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – بالمدينة، قالوا: وذلك أن أهل اليمن كانوا مشهورين بصناعة الثياب ونسجها فدفعها أيسر عليهم، على حين كان أهل المدينة في حاجة إليها، والمقصود دفع الحاجة ولا يختلف ذلك بعد اتحاد قدر المالية باختلاف صور الأموال.
الرد عليه: قال ابن حجر في الفتح: هذا التعليق صحيح الإسناد إلى طاوس لكن طاوسًا لم يسمع من معاذ فهو منقطع فلا يغتر بقول من قال ذكره البخاري بالتعليق الجازم فهو صحيح عنده، لأن ذلك لا يفيد الصحة إلا إلى من علق عنه، وأما باقي السند فلا. اهـ.
رابعًا: قال الله – تعالى -: خذ من أموالهم صدقة<< [التوبة: 103]. قالوا: هذا تنصيص على أن المأخوذ مال والقيمة مال فأشبهت المنصوص عليه، وأما بيانه - صلى الله عليه وسلم - بأعيان معينة فللتيسير لا لتقييد الواجب. الرد عليه: بأن السنة تبين القرآن، وقد نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أجناس بعينها، فالقول بجواز القيمة مخالف للنص وخروج عن معنى التعبد. خامسا: قاسوا زكاة الفطر على الجزية والتي يؤخذ فيها قدر الواجب كما يؤخذ عينه. الرد عليه: بأنه قياس مع الفارق لأن زكاة الفطر فيها جانب تعبد وارتباط بركن في الإسلام، أما الجزية فهي عقوبة على أهل الذمة عن يد وهم صاغرون، فأيما أخذ منهم فهو واف بالغرض والزكاة عبادة وقربة لله - تعالى - وليست مجرد ضريبة مالية. شبهات والرد عليها: يقوم البعض بإثارة شبهات عدة على مسألة إخراج زكاة الفطر عينا حتى يقوم بإخراجها نقدا وهذه الشبهات تنحصر في الآتي: الشبهة الأولى: يرى البعض أن الفقراء محتاجون إلى الثياب في العيد، ومن ثم فهم يقومون بإخراج زكاة الفطر نقدا ليتمكن الفقراء من شراء ثياب العيد لهم ولأولادهم. الرد عليها: أن كثيرا من الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا فقراء في أمس الحاجة للثياب وليس أدل على ذلك مما رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن سائلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في ثوب واحد فقال رسول الله: «أو لكلكم ثوبان»؟ وما رواه الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل الذي أراد أن يتزوج بالمرأة التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «هل عندك من شيء تصدقها؟ فقال: ما عندي إلا إزاري هذا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك». [صححه الألباني]. ومع هذا الفقر المدقع (والذي لا يوجد مثله الآن حيث إن الفقير الآن يمتلك أكثر من ثوب]، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل لأصحابه اعطوهم نقودا بدلا من الطعام ليشتروا بها الثياب للعيدº مع وجود النقود آنذاك، فدل ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - للفعل «إخراجها نقدا» مع وجود المقتضي - وجود الفقراء والمحتاجين للثياب، ووجود المال مع المزكين- وانتفاء المانع، فلم يكن هناك ما يمنع النبي - صلى الله عليه وسلم- من إخراجها نقدا، على أن الترك سنة والسنة إخراجها عينا. 3- ونسأل أصحاب هذا القول ماذا سيفعل الفقراء في عيد الأضحى، وكيف سيحصلون على ثياب العيد؟ ولو أنكم دفعتم ثمن الأضحية إلى الفقير - وهو ما لا يجوز شرعا - لاستطاع أن يشتري ثياب العيد [لارتفاع ثمن الأضحية] له ولأولاده. 4- ثم نقول لهم: لماذا حجرتم واسعا؟ فللمزكي أن يصيب السنة بإخراج زكاة الفطر عينا ثم يتصدق على الفقير بالمال أو الثياب. الشبهة الثانية: أن الفقير تجتمع عنده الزكوات الكثيرة فيضطر إلى بيعها والانتفاع بثمنها. الرد عليها: أن الزكاة تخرج من غالب قوت أهل البلد مما يكال ويدخر مثل الأرز، ولا يوجد أحد يستغني عن القوت الغالب، وإذا كثر عنده فإنه يصلح لادخاره، ومن ثم لا يضطر إلى بيعه بثمن بخس، والنفوس إذا حازت رزقها اطمأنت. فيجب علينا الامتثال لفعله - صلى الله عليه وسلم - بإخراجها عينا والتوقف عن إخراجها نقدا ولا سيما بعدما بان لنا أن الاعتراضات والشبهات التي أثيرت مردود عليها ولا تقوى على الوقوف أمام الصحيح من الدليل النقلي والعقلي. والله الموفق. المصدر موقع مداد...