8 جمادي أولI, 1446
عروبة العلماء.
مقالي بصحيفة الجزيرة اليوم.
#حماد_السالمي #عروبة_العلماء
* ما إن فرغت من قراءة هذا الكتاب المدهش في فصحه، المفيد في وضحه، الجديد في طرحه؛ حتى كتبت في صفحة تهميشاتي وتقميشاتي عليه أقول: سامحك الله يا (ابن خلدون- عبدالرحمن الإشبيلي الحضرمي ت 1406م)، لقد ضللتني طيلة أربعة عقود، مثلما ضللت الخلق من بعدك طيلة ستة قرون.
* الكتاب الذي أعني هو: (عروبة العلماء.. المنسوبين إلى البلدان الأعجمية). المؤلف هو العلّامة العراقي الدكتور: (ناجي معروف 1910- 1977م). جاء الكتاب في ثلاثة أجزاء في مجلدين كبيرين، في أكثر من ألف صفحة، وصدر في طبعته الأولى هذه عن مركز البحوث والتواصل المعرفي بالرياض 1400هـ – 2019م. الملفت أن هذا المبحث موسوعي كبير، فيذكر الدكتور بشار عواد معروف في المقدمة؛ أنه يقع في عشرة مجلدات لم يصدر منها إلا ثلاثة، وكلها تدور حول تحقيق أسماء وانتساب آلاف مؤلفة من الأعلام والعلماء العرب، الذين ظهروا من بلدان أعجمية وانتسبوا لها، ويصحح بالتالي المفهوم السائد حتى اليوم؛ أنهم من العجم. مؤلف الكتاب هو عالم وشاعر وأديب ومؤرخ عراقي، وهو صاحب مؤلفات ومصنفات يصل عددها إلى 33 كتابًا في شتى الفنون. محور البحث المدهش يدور حول أصل ونسب ونسبة آلاف الأعلام في الرواية والحديث والفقه والفلك والتاريخ وخلافها. أسماء شهيرة لامعة في حياة وتاريخ العرب منذ عصر الخلافة الإسلامية الأول والثاني والثالث إلى يوم الناس هذا. كانوا قبلنا وكنا نظن أنهم من أصول تلك البلدان الأعجمية، التي يحملون أسماءها ألقابًا لهم، ثم نكتشف مع هذا المبحث غير المسبوق؛ أن جُلّهم من أصول عربية، وإنما حملوا أسماء تلك البلدان وأهملوا الانتساب لقبائلهم وبلدانهم الأصلية؛ لأنهم عاشوا فيها ابتداءً، أو عاش فيها آباؤهم وأجدادهم، وولدوا فيها من بعد، أو بسبب الخوف على حياتهم ووجودهم، نتيجة للتنازع والاحتراب المتبادل، والثأرات المستعرة بين حاكميات عربية في العراق والشام وما كان يتبع لها. كانت تتصارع شرقًا عبر فارس والهند وخراسان إلى حدود الصين، وغربًا إلى بلاد الأندلس.
* من كان يظن قبل اليوم؛ أن (النيسابوري من بني ذهل، والإمام مسلم من قشير، والنسائي شيباني، والبيهقي عجلي، والصحابي صهيب الرومي من بني النَّمر) وغيرهم آلاف ممن تنتهي ألقابهم بـ(خراساني ونيسابوري وبلخي وجرجاني وهروي وكردي ومروزي وأرمني وأذربيجاني).. إلى غير ذلك من عشرات البلدان الأعجمية التي احتوت صحابة وقادة ومهاجرين عربًا تديّروها في أزمنة متقدمة، حتى أضحوا جزءًا منها ومن نسيج مجتمعاتها، لكن أسماءهم بقيت عربية فيهم وفي خلفهم، وصولًا إلى القائد صلاح الدين الأيوبي، الذي يُنسب إلى الكرد وهو مضري، والكرد نفسهم كما يؤكد (ابن عبد البر) في كتابه: (القصد والأمم)؛ أنهم من نسل (عمرو بن مزيقيا بن عامر بن ماء السماء)، وأنهم وقعوا إلى أرض العجم، فتناسلوا بها، وكثر ولدهم، فسموا الأكراد. ويسميهم الطبري وابن خلدون في مقدمته: (بدو الفرس)، ما يوحي أنهم ليسوا من أصول فارسية. وقد أنشد شاعرهم يقول:
إعلان
ولا يحسب الأكراد أبناء فارس
ولكنهم أبناء عمرو بن عامر
* نعود إلى أصل المشكل الذي أوهم الذهنية العربية على مدى ستة قرون؛ بأن كل من تسمى أو انتسب إلى بلد غير عربي فهو أعجمي. يعود المشكل أولًا إلى الشعوبية الفارسية التي كانت تحط من قدر العرب، وتنسب الفضائل لغيرهم، وخاصة أسماء الأعلام المبرزين في كافة العلوم المنتهية بألقاب بلدانهم غير العربية. ثم ثانيًا: إلى نظرية قال بها ابن خلدون في مقدمته نصها: (إن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم من العجم، إلا في القليل النادر، وإن كان منهم العربي في نسبته؛ فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته). تبعه في هذا حاجي خليفة في كتابه: (كشف الظنون)، ثم تلقف هذه المقولة الخاطئة كل من يكره العرب من الشعوبيين والمستشرقين والمبشرين، إلى يوم الناس هذا.
* عمد المؤلف إلى إثبات أن (حملة العلم في الملة الإسلامية جلهم من العرب)، انطلاقًا من تفنيده لنظرية ابن خلدون سالفة الذكر، فقد رسم مخطط انتشار القبائل العربية في البلاد التي فتحها المسلمون، محددًا المهاجر التي اتخذوها مواطن لهم، مبينًا أن العرب حتى اليوم يهاجرون فينسبون إلى بلدان هجراتهم. لقد تجمع له أكثر من ألف اسم لعالم أو عالمة في المشرق الإسلامي وحده كلهم عرب صرحاء، رغم نسبتهم إلى بلدان أعجمية، أو حِرف ومهن وصنائع اشتغلوا بها، أو مذاهب وطوائف انتسبوا إليها. ومنهم: المحدث والمفسر والفقيه واللغوي والفلكي والأديب والمؤرخ والفيلسوف. وغيرهم. هل يخطر ببالك أن كل الأئمة الستة الكبار أصحاب الصحاح الستة؛ ينتمون بأسرهم إلى بلدان عربية..؟ نعم.. إن من بينهم ثلاثة من أصول عربية صريحة هم: (مسلم.. عربي من قشير، والترمذي من سُليم، وأبو داود من الأزد) أما النسائي فيرجح أنه عربي، والإمام البخاري الجعفي وابن ماجة القزويني الربعي عربيان بالولاء.
* أما بعد.. فقلت بعد قراءة آخر سطر في الكتاب مهمشًّا ومقمشًّا: هناك قرينة أخرى ظاهرة في أسماء الناس في البلدان غير العربية في زمنيهم الغابر والحاضر، تبعث على السؤال: هل من المصادفة أن يحمل ملايين الناس في بلدان إسلامية عديدة إلى اليوم أسماء عربية..؟ إلا إذا كان هذا من باب أن أصولهم عربية، أو اعتزازًا بدين الإسلام الذي يربطهم بالعرب قوم محمد- صلى الله عليه وسلم- وبالعربية التي هي لغة القرآن الكريم..؟