16 رمضان, 1446
فَضَائِلُ شَهْرِ شَعْبانَ
﴿الخُطْبَةُ الْأُوْلَى﴾
إِنَّ الحَمدَ للهِ نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: عِبادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تَعالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ يومٍ تُدْرِكُونَه في هَذِهِ الدُّنيا الْفانِيَةِ وَالظِّلِّ الزَّائِلِ غَنِيمَةٌ لَكُمْ، فَتَزَوَّدُوا فِيهِ مِنَ الطَّاعاتِ، وَحاسِبُوا فِيهِ أنفُسَكُمْ، وَاسْتَدْرِكُوا فِيهِ شَيئًا مِمَّا فاتَكُم، خاصَّةً إِذَا أَدْرَكْتُمْ أَزْمِنَةَ الطَّاعاتِ، فَفِيها مَزِيَّةٌ عَنْ غَيْرِها، فَهِيَ مُبارَكَةٌ، تُغْفَرُ فِيها السَّيِّئاتُ، وَيُعْتَقُ فِيها مِنَ النِّيرانِ، وَتُرْفَعُ فِيها الدَّرَجاتُ، وَتُضاعَفُ فِيها الحسَناتُ، وَمِنْ تِلْكُمُ الأزمِنَةِ شَهْرُ شَعْبانَ، فَفِيهِ تَتَحَرَّكُ الْقُلُوبُ الْحَيَّةُ، وَتَتَأَهَّبُ شَوْقًا لِسَيِّدِ الشُهُورِ وَأَفْضَلِها، شَهْرِ رَمَضانَ.
وَسَمَّتِ الْعَرَبُ شَهْرَ شَعْبانَ بِهذَا الِاسْمِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَ شَهْرِ رَجَبَ، وَرَجَبُ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَكَانُوا يَتَوَقَّفُونَ فِيهِ عَنِ الْقِتالِ، لِتَعْظِيمِهِمُ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ؛ فَلا يُقاتِلُونَ فِيها، فَإِذَا انْقَضَى شَهْرُ رَجَبَ، خَرَجُوا وَتَشَعَّبُوا وَتَفَرَّقُوا فِي الْقَبائِلِ مِنْ أَجْلِ الْغاراتِ وَالْقِتالِ، فَمَنَّ اللهُ عليِهِم بِهَذا الدِّينِ، وَبِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ ، فتَغَيَّرتْ نَظْرَتُهُم لِهذا الشَّهْرِ، فَصارَ مَوْسِمًا لِلْعِبادَةِ وَالتَّزَوُّدِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالِاسْتِعْدادِ لِشَهْرِ الْخَيرِ وَالرَّحْمَةِ.
وَهُناكَ أُمُورٌ تَتَعَلَّقُ بِشَهْرِ شَعْبانَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ مَعْرِفَتُها:
أَوَّلُها: رَفْعُ أَعْمالِ الْعِبَادِ، كَما قالَ رَسُولُ اللهِ : «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ وَرَمَضانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمالُ إِلَى رَبِّ الْعالَمِينَ» [حسنه الألباني].
ثانِيًا: الصِّيامُ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ ما يَدُلُّ عَلَى عِنايَةِ النَّبِيِّ بِالصِّيامِ فِي هَذَا الشَّهْرِ، كَما فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها، أَنَّ النَّبِيَّ : «كانَ يَصُومُ شَعْبانَ كُلَّهُ»، وَفِي رِوايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «كانَ يَصُومُ شَعْبانَ إِلَّا قَلِيلًا»، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ كانَ تَارَةً يَصُومُ شَعْبانَ كُلَّهُ، وَتارَةً يَصُومُ أَكْثَرَهُ، وَفِي سُنَنِ أَبِي داوُدَ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها قالَتْ: “كانَ أَحَبُّ الشُّهُورِ إِلَيْهِ أَنْ يَصُومَهُ شَعْبانَ، ثُمَّ يَصِلُهُ بِرَمَضانَ”.
ثالِثًا: أَنَّ مِنْ أَسْبابِ الْعِنايَةِ بِصِيامِ شَهْرِ شَعْبانَ أَنَّهُ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبابِ عِمارَةِ أَوْقاتِ غَفْلَةِ النَّاسِ بِالطَّاعَةِ، كَمَا كانَ طائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ يَسْتَحِبُّونَ إِحْياءَ ما بَيْنَ المغْرِبِ وَالْعِشاءِ بِالصَّلاةِ، وَيَقُولُونَ هِيَ ساعَةُ غَفْلَةٍ، ومِثْلُ ذَلِكَ اسْتِحْبابُ ذِكْرِ اللهِ تَعالَى فِي السُّوقِ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ فِي مَوْطِنٍ تَكْثُرُ فِيهِ الْغَفْلَةُ، وَكَذَلِكَ قِيامُ اللَّيْلِ، فَإِنَّ أَجْرَهْ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ النَّوْمِ وَالرَّاحَةِ وَالْغَفْلَةِ عَنِ الْعِبادَةِ.
كُلُّ ذلك يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فِي أَوْقاتِ الْغَفْلَةِ أَعْظَمُ ثَوابًا، وَهُوَ أَشَقُّ عَلَى النُّفُوسِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْعَمَلَ إِذَا كَثُرَ المشارِكُونَ فِيهِ سَهُلَ، وَإِذَا كَثُرَتِ الْغَفَلاتُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُتَيَقِّظِينَ.
رابعًا: لا يجوزُ صيامُ آخِرِ يَوْمَيْنِ مِنْ شَعْبانَ، إِلَّا إِذَا كانَ الشَّخْصُ قَدِ اعْتَادَ صَوْمًا مُعَيَّنًا فَوافَقَ آخِرَ يَوْمٍ أَوْ آخِرَ يَوْمَيْنِ، كَمَنِ اعْتَادَ صَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَوافَقَ ذَلِكَ آخِرَ شَعْبانَ، وَكَذَلِكَ مَنِ اعْتَادَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا وَيُفْطِرَ يَوْمًا، أَوْ أَنْ يَصُومَ آخِرَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، أَوْ كانَ عَلَيْهِ قَضاءٌ مِنْ رَمَضانَ الْفَائِتِ، وَيَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَى أَمْرٍ مُهِمٍّ، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ المسْلِمِينَ يَتَساهَلُ فِي قَضاءِ رَمَضانَ الْفَائِتِ، حَتَّى يَضِيقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ، فَلا يَتَمَكَّنَ مِنْ قَضاءِ ما عَلَيْهِ مِنْ أَيَّامٍ، وَلا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُؤَخِّرَ الْقَضاءَ إِلَى أَنْ يُدْرِكَهُ رَمَضانُ الْآخَرُ إِلَّا لِعُذْرٍ، فَإِنْ أَخَّرَ الْقَضاءَ بِلَا عُذْرٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مَعَ التَّوْبَةِ وَالْقَضاءِ أَنْ يُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ أَخَّرَهُ مِسْكِينًا.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا.. وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
اَلْحَمْدُ للهِ عَلىَ إِحْسَانِهِ وَالشُّكْرُ لَهُ عَلىَ تَوْفِيْقِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ اِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ تَعْظِيْمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ الدَّاعِي إِلىَ رِضْوَانِهِ. أَمَّا بَعْدُ
عَبَادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾، تَقَرَّبوُا إِلَىَ اللهِ تَعالَىَ بِالصَّالحاتِ، وَبادِروُا أَعْماركُمْ بما يُقَرِّبُكُمْ إِلَىَ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّماواتِ، واطْلُبوُا ما عِنْدَهُ مِنَ الخيْرِ؛ فَإِنَّهُ لا يُسْتَجْلَبُ ما عِنْدَ اللهِ إِلَّا بِطاعَتِهِ وَتَقْواهُ، ثُمَّ اعْلَمُوا إِنَّهُ مِمَّا شاعَ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ما يَتَعَلَّقُ بِفَضْلِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ، وَقَدْ جاءَ فِيها جُمْلَةٌ مِنَ الْأَحادِيثِ لا يَصِحُّ مِنْها شَيْءٌ، وَلِهَذَا ذَهَبَ جَماهِيرُ الْعُلَماءِ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذِهِ الَّليْلَةِ فَضْلٌ، ذَهَبَ إِلَىَ ذَلكَ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدِيمًا وَحَديثًا، فَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ كَسائِرِ لَيالِي الزَّمانِ لَيْسِ لهَا فَضْلٌ يَخُصُّها، وَلا لهَا مَزِيَّةٌ تُمَيِّزُها عَنْ غَيْرِها. وَكَذَلِكَ ما وَرَدَ مِنْ مَشْرِوعِيَّةِ صِيامِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ، أَوْ إِحْياءِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْهُ بِالْقِيامِ وَالتِّلاوَةِ وَالدُّعاءِ؛ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ عَنِ النَّبِيِّ .
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ عز وجل: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عن الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ نَرْجُو فَلاَ تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ. اللَّهُمَّ وَاغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ. اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَانْصُرْ جُنُودَنَا، وَأَيِّدْ بِالْحَقِّ إِمَامَنَا وَوَلِيَّ أَمْرِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى. اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
عباد الله: اذْكُرُوْا الْلَّهَ الْعَظِيْمَ الْجَلِيْلَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ عَلَىَ وَافِرِ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ الْلَّهِ أَكْبَرُ وَالْلَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُوْنَ.