1 ربيع أولI, 1446
(مقال سمو صاحب التكسي) للدكتور علي الوردي قصة حقيقية حدثت معه في الخمسينيات في بغداد..
يقول الدكتور علي… بعد أن هبطت بنا الطائرة في رحلةِ العودة إلى بلدي استلمت حقيبتي وخرجت من بوابة المطار، وركبت إحدى سيارات الأجرة التي كانت متوقفة في انتظار المسافرين، وبعد أن وضع السائق حقيبتي في صندوق السيارة، ركبت خلف المقود وتحركت السيارة، وكان الزمن ما بين المطار وبين منزلي ما بين الثلث والنصف ساعة بحسب خلو الطريق وازدحامه.
وفي أثناء الطريق أخذت أتجاذب أطراف الحديث مع صاحب التاكسي، فوجدت في حديثه ثقافةً واضحةً، وفي أسلوبِهِ رصانةً واتزانا، وكنتُ أنظر إليه وهو يتحدث فأرى في قسماتِ وجهِهِ نضارةً، وفي ابتسامتِه رضاً وسعادة، وفي نظرته للمستقبل تفاؤلاً قلَّ نظيره، وكأن هذا السائق لا يحمل من همومِ الدنيا شيئاً أبدا، بخلاف ما تعودناه من أقرانِه سائقي سياراتِ الأُجرة، من كثرةِ شكوى وتضجرٍ وتأفف، تسمع ذلك في حديثهم، وتراه بادياً في قسماتِ وجوهِهم: لما يواجهونه من ضغوطات الحياة ومتاعبها.
قال الدكتور علي… حقيقةً لقد أدهشني هذا السائقُ وفرضَ عليَّ احترامَه، بحُسنِ مظهرِه ونضارةِ وجهِه، وأسرني بحديثِه وحلاوةِ منطقه، فعدَّلتُ في جلستي ورتَّبتُ كلامي، وغيَّرتً نِدائي له باختيار ألفاظٍ فيها من التقدير والاحترام ما يليق بهذا الرجل.
ولمَّا توسطنا العاصمةَ ونحن في الطريق، نظرتً للرجلِ وخاطبته قائلاً له: اصدقني القول يا أخي في التعريف بنفسك، فمظهرُك ونضارةُ وجهِك وثقافتك لا تتوافق مع صفات صاحبِ سيارةِ أجرةٍ يكدح من الصباح إلى الليل!!
فنظر إليَّ الرجلُ بابتسامةٍ تخفي وراءها ألفَ حكايةٍ وحكاية، ثم صمت قليلا، ونظر إليَّ وأشار بيده إلى عددٍ من المباني الشاهقة على يمين الطريق، وفي الجهة الأخرى أشار بيده إلى بعض القصور الفخمة والتي تمتد على مساحاتٍ شاسعة، محاطةٍ بأسوارٍ مرتفعة، ترى من فوقها أشجارَها الخضراء فقلت نعم قد رأيتها فما شأنها ؟ قال لو أردتُ أن تكون كلُّها وأضعافُها ملكاً لي لكان ذلك.
فقلت له ولِمَ لا ؟ وهل يكره عاقلٌ أن يكون مالكاً لكلِّ ما ذكرتَ؟
فقال يا أخي الكريم… لقد كنتُ مديراً للشئون المالية في أكبرِ الوزارات في هذا البلد، وأنت تعرف معنى ذلك في بلدنا وفي مثيلاتها من الدول، لقد كانت كلُّ المشاريعِ والمناقصات و..و.. لا يمكن اعتمادُها والموافقةُ عليها إلا بعد توقيعي.
فكنتُ دقيقاً في استيفاءِ كافةِ الشروطِ والضوابطِ لقبول أيِّ معاملة، ولا يمكن التنازلُ عن هذا المبدأ أيَّاً كانت المبررات، فأنا أعلم أن وِزرَ هذا الشعب سيتحمله كلُّ مسئولٍ خان أمانتَه، وأنَّ دعاء الملايين على من فرَّط في حقوقه سيصل عاجلا أو آجلا… كيف لا… والله عز وجل يقول في الحديث القدسي عن دعوة المظلوم (( وعِزَّتي وجلالي لأنصُرنَّكِ ولو بعد حين))، ولا أُخفيك أخي الدكتور علي… لقد تعرضت لمضايقاتٍ عديدة، وضغوطاتٍ كثيرة، وصل بعضُها إلى حدِّ التهديدِ المبطَّن، فلم ألتفت لذلك، وثبتُّ على المبادئ والقيمِ التي آمنت بها.
قال صاحب التاكسي… ولأنَّنِي إنسانٌ من لحمٍ ودمٍ ومشاعرَ وأحاسيس، أشعر بما يشعر به كلُّ إنسان، فقد مرَّت بي لحظاتُ ضعفٍ أمام عروضٍ كثيرةٍ بعشرات الملايين، وأراضٍ وعِماراتِ و…و.. كلُّ ذلك في واحدةٍ من المناقصات، فكيف لو وافقت على كل المعاملات؟ هل ستراني أقوم بنقلِك من المطارِ إلى منزِلك في هذا الوقت، وعلى هذه السيارة؟
فقلت له – وقد ازداد إعجابي بهذا الرجل – وكيف تغلبتَ على لحظاتِ الضعفِ التي مرَّت بِكَ؟
فقال تعلم يا أخي أنَّ من أعظمِ الفتن التي يُبتلى بها العبدُ فتنةَ المالِ والفقرِ، وإلحاحَ الزوجةِ والأولاد، فكيف إذا اجتمعت كلُّها على إنسانٍ ضعيفٍ مثلي – وكأنه يستحضر قول الله عز وجل ((وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ))، وكأنه يقرأ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم يوم استعاذ من فتنة الفقر في قوله (( وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الفَقْرِ)).
فقلت له وماذا صنعت أمام هذه المُغريات من الملايين؟ وأمام تلك الضُّغوطاتِ الكبيرةِ من المسئولين في الوزارة، وإلحاحِ الزوجةِ والأولاد، واحتياجاتِهم الحياتية؟
فقال لي عندما يعمل الإنسان وفق مبادئ وقيمٍ يؤمنُ بها إيمانا كاملاً، واثقا بأنَّ الله عز وجل هو الذي يقسم الأرزاق، فسينجح وسيتغلب على كلُّ العواصف التي تواجهه، فكيف عندما يكون هذا الإنسانُ مسلماً، عالماً بأن الله يبتلي عباده بالفقر والغنى، واثقاَ بتحقُّقِ موعود الله له بأن يعُوِّضَه خيراً مما تركه، كما في الحديث ((من ترك شيئا لله عوضه الله خيراً منه)).
ثم استرسل صاحب التاكسي في حديثه قائلا: وكنت كلما شعرت بالضعف أمام إغراءات المال، وكثرةِ متطلبات الأسرةِ التجأت إلى الله بأن يثبتني، فإذا عُدتُ لبيتي ونظرتُ في وجوهِ أبنائِي وبناتِي زاد ذلك في ثباتي، فقد كنت أخاطب نفسي بأنَّ أولادي هم أول من سيحاسبني ويتعلق في رقبتي في الآخرة لو أطعمتهم من كسبٍ حرام، وبأنَّ هؤلاء الصغار المساكين سأكون أنا من دمرت حياتَهم في هذه الدنيا، وأضعفتُ قوتَهم، وفرَّقتُ شملَهم، وزرعتُ بينهم العداوةَ والبغضاء فيما لو أطعمتَهم سُحتاً وحراما.
ولا أُخفيك سراً أخي الدكتور علي بأن رؤيتي لأطفالي وخوفي عليهم من آثار اللقمةِ الحرامِ كانت من أكبرِ المثبِّتاتِ لي بعد اللهِ عزَّ وجل.
قال الدكتور علي… وقبل أن نصل إلى منزلي ختم الرجل – الصادق في إيمانه والكبير في رجولته وإيثاره – ختم حديثه قائلا بعد سنوات أمضيتُها في عملي كنتُ خلالها في صراعٍ كبيرٍ مع الجميع، فالبعضُ ينظر إليَّ باحتقار، والبعض الآخر يتحدث عنِّي بسُخرية وازدراء، وطائفةٌ أخرى يرمونني بالجنون – بزعمهم أن من يرفض هذه الملايين ما هو إلا معتوه – وكنت خلال تلك الفترة في صبرٍ عظيمٍ ومجاهدةٍ مستمرةٍ مع النفس، كلما ضعفتُ التجأتُ لربِي، ثم جمعت أولادي أنظرُ إلِيهم وأضُمُّهم لقلبي، واحتضنهم إلى صدري، وأنا أردد قوله تعالى( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ )، فأعود بعدها أقوى وأقوى، أمارس عملي ثابتا على مبدئي.
قال صاحب التاكسي مخاطبا الدكتور علي… وفي نهاية المطاف قدمت استقالتي من عملي، وخرجت خروجاً لا رجعةَ بعده، واشتريتُ بحقوقي هذا التاكسي، وانطلقت أجمعُ لقمةَ أولادي من عرَقِ جبينِي غيرَ آسفٍ على منصبٍ تركتُه، ولا آبهٍ براتبٍ كنتُ أتقاضاه، تركتُ ذلك كلَّه لأنجو بدِيني ولأكسبَ مستقبل أولادي، وأُحافظَ على صحتِي، وأنا واثق بأنَّ الله عزّ وجل سيعوضَنِي خيراً مما تركتُه، وسيحفظَنِي بحفظه، وكنت أردد دائماً حديثَ نبيي وحبيبي صلى الله عليه وسلم(( احفظ الله يحفظك))، وقد واللهِ حفظني ربِّي في نفسي وولدي، فأنت أخي الدكتور علي قد رأيتَ ما أنعم اللهُ به عليَّ من الصحةِ والقوةِ ونضارةِ الوجه كما سمعتُهُ منكَ.
قلت… وهذا يذكِّرُنا بما قيل ( إن من عجائب حكمة الله، أنه جعل مع الفضيلة ثوابَها الصحةَ والنشاط ، وجعل مع الرذيلةِ عقابَها الانحطاطَ والمرض..).
وأضاف صاحبُ التاكسي… وكما حفظ اللهُ لي صِحتي فقد حفظني كذلك في أولادي: فأولادي – ولله الحمد والمنَّة – قد تخرجوا من الجامعات بتفوق، وهم يشغلون مراكزَ عليا، وجُلُّهم يحفظ القرآن أو على وشكِ حفظِهِ، وبيننا من المحبةِ والألفةِ والإِيثارِ والترابُطِ ما أعجزُ أن أصِفَهُ لك.
قال صاحب التاكسي… وقد بلغني – بعد سنوات – عن بعض زملائي في العمل ممَّن هم أقلُّ منِّي درجة في السلم الوظيفي قد أصبحوا من أصحابِ الأرصدةِ الكبيرة، والعِمارات الشاهقة والقصور الفخمة، لقد سمعتُ عنهم أخباراً جعلتني أضاعف حمدي وشكري لمولاي عزَّ وجل الذي هداني وثبَّتنِي أمام فتنة المال، فقد انتهى المطاف ببعض أولئك الزملاء بإصابتهم بأمراضٍ مزمنة، فأحدُهم يعالج في الخارج من المرض الخطير، والثاني من تليُفٍ في الكبِد، والآخر اختلف أبناؤه وتقاتلوا فيما بينهم، والآخر أدمن بعضُ أبنائه المخدرات…
قال صاحب التاكسي للدكتور علي… وفي القريب العاجل بإذن الله سوف أُودِّع هذه الحبيبة – سيارتي التاكسي – فقد ألحَّ أولادي عليَّ كثيراً بالترجُّلِ من على صهوتها، بعد أن تحسَّنت أحوالُهم، وارتفع دخلُهُم، وأصبحوا في رَغَدٍ من العيش، فقد فهمتُ أنَّهُم يريدون إِراحتِي ليبرُّوا بي، ويقوموا على خدمتي، وأنا أرغب في أن أُتيح لهم الفرصةَ ليجِدوا بِرَّ أولادِهم.
قال الدكتور علي… اقتربنا من المنزل وأنا أسبَحُ في أمواجٍ عاتيةٍ من الأفكارِ المتداخلةِ التي تواردت بشكلٍ سريعٍ في مخيلتي، وأنا أحاول خلال هذه اللحظات أن أتماسك، ودموعي قد حبستها في مآقيها، وبعد وصولنا أوقف الرَّجلُ سيارته، ونزل واتجه يريد حملَ حقيبتِي، فأسرعتُ الخطى وسبقتُهُ إليها وحملتها وكُلِّي حياء وخجل من نفسي عندما سمحت له بحملها عند المطار، ثم مددت إليه يدي وأعطيتُهُ أُجرتَه، فأخذها ووضعها في جيبه ولم يتأكد من عدِّها، وركب سيارتَهُ وألقى عليَّ السلامَ مودِعاً، فلم أستطع أن أرُدَّ عليه وداعَهُ خشيةَ انكشافِ أمري وتفجُّرَ دموعي وارتفاع صوت ببكائي…
لقد وقفت ثابتا في مكاني خارج منزلي أنظرُ باحترامٍ وإجلالٍ إلى صاحبِ التاكسي… أنظر إلى أعظمِ رجلٍ قابلتُه في حياتي، وخجلتُ من دخولِ منزلي قبل اختفاء صاحب التاكسي.
يقول الدكتور علي… لقد تعلمت وأنا الأستاذ المشارك في الجامعة من هذه الشخصية ما لم أتعلمُه طيلةَ حياتي، وكنتُ أظن أننا – أساتذة الجامعة – نملك التأثيرَ بما لدينا من علمٍ وثقافة، لكنَّ الحقيقةَ أنَّ من يملك التأثير والتغيير في الآخرين هم الصادقون المخلصون المتوكلون على ربِّهم، الواثقون بعونِه وحفظه وتأييده، أولئك الذين يعملون بما تعلَّمُوه، الذين يثبتون على القيم والمبادئ التي آمنوا بها، بعيداً عن بريقِ المناصب وعُلوِّ الجاه، وتضخُّمِ الرصيد.((منقول))