8 جمادي أولI, 1446

ماذا تعرف عن الاستشراق والمستشرقين ؟

بقلم أ.د. حسن أبوغدة..

تعريف الاستشراق:
ليس لهذا المصطلح وجود في لغة العرب، لكنه مشتق من لفظ: ” الشَّرْق “، ويدل لفظ الاستشراق على الاتجاه نحو الشرق…
ويراد به اصطلاحاً: العلم الذي يبحث فيه الغربيون من وِجْهة نظرهم عن أحوال الشرق وبخاصة العالم الإسلامي، من حيث اللغة، والآداب، والتاريخ، والاجتماع، والاقتصاد، والسياسة، والدين، والعادات، والتقاليد، وغير ذلك؛ بقصد تحقيق أهداف معينة.

والمستشرق هو: واحدٌ من العلماء الغربيين، فَرَّغ نفسه لدراسة أحوال المَشْرِق المتنوعة؛ بقصد تحقيق أهداف معينة.

بدايات الاستشراق وتطوره:
من الصعب تحديد بدايات تاريخية قديمة للاستشراق، لكنَّ المشهور أنه نشِط وأصبح عِلْماً يُدَرَّس في القرنين: الخامس عشر والسادس عشر الميلادي، في إيطاليا وبريطانيا والبرتغال، ومن أبرز المستشرقين في ذلك الوقت وأشهرهم المستشرق ” توماس هربرت “، وكان شاباً ذكياً وماهراً، استطاع الوصول إلى السواحل الجنوبية لإيران قادماً من الهند، بالتنسيق مع السفير البريطاني آنذاك، فبدأ بكتابة بحوثه حول إيران والإيرانيين.

ومنذ أواخر القرن السابع عشر الميلادي أصبحت مدينتا ” لندن ” و ” باريس ” من المراكز الرئيسية في تدريس الاستشراق، ثم توسّع ذلك حتى أصبحت أكثر البلدان الأوربية في الوقت الحاضر لديها معاهد خاصة بتدريس الاستشراق بجميع أقسامه، وغَدَتْ تُخرِّج في كلِّ عام أعداداً كثيرة من الأساتذة، الذين يُغذُّون علم الاستشراق ودراساته، إلا أن المستشرقين في أوقات عديدة بدؤوا يأخذون أشكالاً أخرى في الظهور باسم مستشارين اقتصاديين، أو سياسيين، أو لغويين، ويتبعون وزارات الخارجية والاقتصاد والدفاع وغيرها، ومهمتهم فهم طبيعة العالم الإسلامي وتوجهات المسلمين، وذلك من أجل التعامل الغربي معهم.

وقد أدرك الأوربيون عامة والمستشرقون خاصة، قديماً وحديثاً، أنه لا سبيل إلى الانتصار على المسلمين عن طريق الحروب والقوة العسكرية؛ لأن تمسَّكهم بالإسلام يدفعهم إلى المقاومة والجهاد؛ لحماية ديار الإسلام والدفاع عن الحرمات والأعراض، وأنه لا بدَّ من سبيل آخر لغزو المسلمين وترويضهم وإخضاعهم، وهذا السبيل هو الغزو الفكري ” الناعم ” وهو: أن يقوم العلماء والمستشرقون الأوربيون وغيرهم بدراسة الإسلام وتعاليمه ليأخذوا منه السلاح الجديد الذي يغزون به المسلمين، من خلال تزييف تعاليم الإسلام، وتشويه حقائقه، وإثارة الشبهات حوله، وعمدوا في سبيل ذلك إلى إقامة مراكز البحوث ” المحايدة ” بزعمهم، وإجراء الدراسات، وتأليف الكتب، وتحقيق المخطوطات، ونشر الموسوعات مثل: ” دائرة المعارف الإسلامية “، وإصدار المجلات، وكتابة المقالات، وتكوين الجمعيات الاستشراقية، وعقد الندوات والمؤتمرات في بلادهم وفي بعض البلاد الإسلامية…إلخ.

أصناف المستشرقين:
يمكن تقسيم المستشرقين إلى ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: مستشرقون مُنْصِفون أسْلموا: وهؤلاء درسوا الإسلام دراسة دقيقة واعية، واستوعبوا ما فيه، فشرح الله تعالى صدورهم إلى الإسلام فأسلموا، وأفادوا الإسلام والمسلمين بدعوتهم الآخرين إلى الإسلام من خلال كتاباتهم ومحاضراتهم. ومن هؤلاء: ” محمد أسد ” الذي ألف كتاب: ” الطريق إلى مكة ” وكتاب: ” الإسلام في مفترق الطرق ” وغير ذلك. ومنهم: ” رينيه ” الفرنسي، صاحب كتاب: ” أشعة خاصة بنور الإسلام “، وقد أسلم وعاش في الجزائر ودفن فيها. ومنهم: ” مريم جميلة ” التي ألفت كتاب: ” الإسلام بين النظرية والتطبيق “.

الصنف الثاني: مستشرقون مُنْْصِفون لم يُسْلِموا: وهؤلاء درسوا الإسلام واطَّلعوا على حقائقه وتعاليمه، فنقلوها كما هي من غير تحريف ولا تزييف، ومدحوا الإسلام وأبرزوا فضائله، لكنَّ قلوبهم لم تتفتَّح للإيمان به. ومن هؤلاء: ” هارديان رينالد ” الهولندي، الذي ألَّف كتاب: ” الديانة المحمدية ” في جزأين، لكن الكنيسة منعت تداوله واعتبرته من الكتب الخطيرة على عقائد النصارى. ومنهم: ” أربري ” الذي ترجَم معانيَ القرآن الكريم، وألَّف كتاب:” الإسلام اليوم “. ومنهم: ” هونكه ” المستشرقة الألمانية التي ألفت كتابها الشهير: ” شمس العرب تسطع على الغرب “. ومنهم: ” جوته “، و ” توماس أرنولد “، و ” غوستاف لوبون ” المؤرخ الفرنسي الذي ألف كتابه ” حضارة العرب “، وهو صاحب العبارة المشهورة: ” لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب “.

الصنف الثالث: مستشرقون حاقدون مُخادعون مُفْتَرون على الإسلام: ومن أهداف هؤلاء: تشكيك المسلمين في دينهم وتشويهه أمام الآخرين، والعمل على تنصير المسلمين، والإعانة على استعمار بلادهم. ومن هؤلاء: ” جولد زيهر ” اليهودي المجري، صاحب كتاب: ” تاريخ مذاهب التفسير الإسلامي “، و ” صموئيل زويمر ” صاحب كتاب: ” الإسلام “، و ” ماكدولند ” الأمريكي المتعصِّب، صاحب كتاب: ” تطوُّر علم الكلام “، ومنهم: ” مرجليوث “، و ” جوزيف شاخت “، و ” بلاشير “…إلخ.

أهداف الاستشراق ووسائله:
قد يتساءل المرء: ما الذي يجعل هؤلاء المستشرقين يُفَرِّغون أوقاتهم، ويبذلون قصارى جهدهم، ويُتعبون أنفسهم، ويهتمون بدراسة الإسلام وتعاليمه وتاريخه؟ وما هي الأهداف التي يسعون إليها؟ الجواب على هذا فيما يلي:

1ـ الأهداف الدينية: وذلك من أجل تحويل المسلمين عن دينهم، ونشر التعاليم النصرانية بينهم، والحدِّ من نفوذ الإسلام الذي توسع انتشاره ونفوذه في عموم الأقطار، وقد كانت لهم عدة وسائل لتحقيق هذا الهدف، ومن ذلك ما يلي:

أ ـ التشكيك في صحة القرآن الكريم وسلامته، وذلك من خلال الزعم بأن الوحي الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم هو تخيُّلات وحالات نفسية من الغيبوبة كانت تنتابه وقتذاك، وهم بهذا يريدون إلغاء صفة الوحي الإلهي عن القرآن الكريم، ونزع قدسيته من النفوس، واستبعاده من حياة المسلمين لئلا يتخذوه مرجعاً لهم.

ب ـ التشكيك في صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والزعم بأن الحديث النبوي هو من اختراع المسلمين في القرون الثلاثة الأولى، وهم بهذا يريدون التشكيك في السنة النبوية، وإلغاء الاحتجاج بها، مع أنها المصدر التشريعي الثاني بعد القرآن الكريم.

ج ـ الانتقاص من مكانة التشريع الإسلامي عموماً، والفقه الإسلامي خصوصاً، والادِّعاء بأنه مستمد من الديانة اليهودية، ومن الفقه الروماني، وهم بذلك يريدون النيْل من أصوله الإلهية، ومن كونه رباني المصدر؛ لأنه بزعمهم من صنع البشر جملة وتفصيلاً.

د ـ التقليل من مكانة وشأن اللغة العربية ـ لغة القرآن ـ وتشجيع استعمال اللغات العامية: الإقليمية والمحلية؛ لأن اللغة العربية بزعمهم عاجزة عن مسايرة التطور الحضاري الحديث ومبتكراته، وعن استيعاب ألفاظه ومصطلحاته في شتى المجالات، وهم بذلك يريدون قطع صلة المسلمين بالقرآن الذي نزل باللغة العربية، وصرفهم عن قراءته، وإضعافهم عن فهم مضامينه وأوامره ونواهيه.

هـ ـ اعتمادهم على الأحاديث الضعيفة والموضوعة، والأخبار التاريخية الشعوبية المُغْرِضة وترويجها ونشرها، في سبيل تدعيم آرائهم، ونشر أباطيلهم وافتراءاتهم.

2ـ الأهداف الاستعمارية: لما هُزِم النصارى الأوربيون في الحروب الصليبية وأُخرجوا من بلاد المسلمين، رأوا أن يعملوا على العودة إليها من خلال تسخير المستشرقين لتفتيت قوة البلاد الإسلامية، وتمزيق وحدتها إلى دويلات يسهل استعمارها، وذلك بإثارتهم النعرات الدينية، والطائفية، والقومية، والعِرْقية، وتشجيع ثقافاتها ولغاتها، ودعوتهم إلى القومية العربية، والكردية، والفارسية، والفرعونية، والفينيقية، والآشورية، واتِّهام المسلمين بظلم غيرهم من أصحاب الديانات والطوائف، فكان أن وُجِد عملاء لهؤلاء المستشرقين والمستعمرين الجدد، في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين الميلادي، مَهَّدوا لعودة الاستعمار الأوربي، وتعاونوا معه، وعملوا على قبوله بحجة حمايتهم من الاضطهاد، يقول وزير المستعمرات البريطاني ” أومسبي غو “: إن الحرب علَّمَتْنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي على الإمبراطورية البريطانية أن تحذره وتحاربه، بل ليس الإمبراطورية البريطانية وحدها، وإنما فرنسا أيضاً، ولحُسْنِ حظِّنا فقد سقطت الخلافة العثمانية، وأتمنى أن يكون ذلك إلى غير رجعة.

ويقول ” مراد هوفمان ” سفير ألمانيا في المغرب ـ بعد أن هداه الله تعالى للإسلام ـ: والحقُّ أن معظم المستشرقين كانوا ـ عن وَعْيٍ وعن غيرِ وعْي ـ أدواتٍ لخدمة الاستعمار، وكان بعضُهم يعمل جواسيسَ للغرب.

3ـ الأهداف المالية والمعيشية: عمَد بعض المستشرقين إلى اتِّخاذ الاستشراق سبيلاً إلى الكسب المادي والمعيشي، وذلك من خلال الاشتغال بمخطوطات التراث الإسلامي ومؤلفاته، فقاموا بتحقيق المخطوطات، وتأليف الكتب، وطبعها ونشرها وبيعها بأثمان مرتفعة.

كما وُجِد فريق من المستشرقين ضاقت بهم سبل العيش الكريم في بلادهم، فقصدوا البلاد الإسلامية ـ وبخاصة في القرنين الميلاديين: التاسع عشر والعشرين ـ يرصدون الحركات الاسلامية، ويستطلعون أخبار المسلمين وأحوالهم بتوجيه من الحكومات الأوربية ومخابراتها ومؤسساتها وشركاتها التجارية، ويكتبون التقارير المفصَّلة عن البلاد الإسلامية، ويقدِّمونها إلى تلك الجهات مقابل أجور وفيرة يتقاضونها.

مصادر تمويل النشاط الاستشراقي:
تقوم العديد من الجهات الغربية وغيرها بتمويل النشاط الاستشراقي والتبرع له والإنفاق عليه، ومن هذه الجهات: المؤسسات الكنسية والدينية، والمؤسسات التجارية والسياسية، والعديد من ملوك وأمراء وأثرياء الغرب وغيرهم، ممن تلتقي مصالحهم مع مصالح وأهداف الحركة الاستشراقية، وتظهر هذه التبرعات والمساعدات في صور مشروعات اقتصادية، واسثمار أراضي زراعية وعقارات، وتسخير أرصدة خاصة في البنوك والشركات.

سبل مواجهة المسلمين للنشاط الاستشراقي:
عمل المسلمون ولا يزالون يعملون على مواجهة الاستشراق بطرق وأساليب شتى ـ وإن كانت بحاجة إلى مزيد من الدعم والتأييد المتواصل ـ ومن ذلك ما يلي:

أ ـ تأهيل العلماء والأساتذة والباحثين، وإقامة المؤتمرات والندوات والمحاضرات والمناظرات من أجل الكشف عن أساليب المستشرقين وافتراءاتهم والشبهات التي يثيرونها، والرد عليها بالحجج والبراهين العلمية.

ب ـ نشر الثقافة الإسلامية الصحيحة بين الطلاب والمثقفين؛ لتحصينهم من الغزو الاستشراقي وافتراءاته.

ج ـ عدم السماح باقامة نشاطات ومؤتمرات ولقاءات استشراقية في البلاد الإسلامية، ولو كانت تحت عناوين فكرية أو علمية برَّاقة خدَّاعة.

د ـ دعم وتقوية البرامج الإذاعية والتلفزيونية الهادفة ـ وبخاصة الدينية ـ التي تحصن المسلمين من افتراءات المستشرقين.

هـ ـ الإكثار من طبع ونشر وتوزيع الكتب والمنشورات والأشرطة الإسلامية، وإنشاء المواقع الالكترونية التي توقظ الإيمان في النفوس، وتعمل على المحافظة على الهُويَّة الإسلامية.

وـ الاستعانة بأثرياء المسلمين والمؤسسات الخيرية للتبرع والمساهمة في التصدي لتلك النشاطات الاستشراقية المخربة، ودعم المدارس والجامعات والمراكز الثقافية الوطنية.

ز ـ العمل على تلافي الضعف العلمي والفني في مجالات النهضة المعاصرة وعلومها، لتقليل الفجوة بين الدول الإسلامية والدول المتقدمة.
والله ولي التوفيق والحمد لله رب العامين

.