27 رمضان, 1446

التمهيد :
    استعرضت مسبقا بشكل موجز أهمية الحديث عن البدعة لدى علماء الإسلام ، وذكرت أن من ضمن العناصر التي دار حولها الخلاف لدى بعضهم ؛ هو موضوع حقيقة البدعة ، ويعد هذا أهم عناصر الموضوع نظرا للآثار المترتبة على تصور البدعة ؛ إذ بجلاء حقيقة الشيء تتكشف أبعاده وأجزاءه التي يتكون منها ؛ ويعرف ما هو منه وما هو خارج عنه .
    ولعل اللبنة الأولى التي أضعها في طريق بناء حقيقة البدعة هو التعريف بالعبادة ، لأن البدعة في غالب أمرها أنها مصاحبة للعبادة وتدخل عليها فتفسدها ، كالداء الذي يصيب العضو البشري فيحتاج الأطباء لتشريح هذا العضو لمعرفة تراكيبه وخصائصه لمعرفة كيفية وصول هذا الداء إليه وعلاجه ، لا سيما أن الغاية من البدعة لدى كثير من الناس هو المبالغة في التعبد بسلوك طرق غير مشروعة .
    وبعد أن تتمايز الحقيقتان : حقيقة العبادة وحقيقة البدعة ؛ سنذكر باختصار بعض أهم ضوابط معرفة البدعة في باب العبادات ، وذلك للتقرير بالمتفق عليه والانطلاق منه إلى المختلف فيه ، ثم تضييق نطاق الخلاف وتسهيل عملية الحكم على الفعل ؛ ومعرفة الخلاف هو هل من المعتبر أم لا ؟ ؛ وهل هذه العبادة مشروعة أو بدعة غير مشروعة ؟ .
    ولهذا سوف استعرض في هذا التمهيد ثلاثة محاور أجعلها كمباحث تمهيدية للموضوع ، وهي كالآتي :
    المبحث الأول :
    حقيقة العبادة وأقسامها .
    المبحث الثاني :
    حقيقة البدعة وأقسامها .
    المبحث الثالث :
    ضوابط في معرفة البدعة في باب
المبحث الأول : حقيقة العبادة .
   العبادة لغة : من عَبَدَ يعبدُ ، والفاعل عابد والمفعول معبود ، وعَبْدٌ صيغة مبالغة ، وصفة استعملت استعمال الأسماء ، والعبد هو : الإنسان حرا كان أو رقيقا ؛ لأنه مربوب لباريه عز وجل ، ويطلق أيضا على الرقيق المملوك – دون الحر – لأنه في طاعة سيده وملك له ، وجمع عابد عابدون ، وعبد جمعها عبيد .
    وَخَصَّ بعضُ أهل اللغة بكون من عبد الله يكون عبدا وعابدا ، وإن أراد الجمع قال : عَبِيد وعِبَاد وعابدون ، بينما لا يقال للملوك عابد ؛ وكذلك إذا خدم سيده فلا يقال له عَبَدَهُ ، لأن العابد هو الموحد ؛ والعبادة حق لله دون سواه ، أما العبودية فهي : الرضا والطاعة والتذلل والخضوع ، ولذلك يقال هذا عبد فلان أو عبد الدرهم والدينار ، أما العبادة فهي أبلغ من العبودية ؛ لأنها الغاية في الرضا والطاعة والخضوع والتعظيم ، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال والإحسان وهو الله سبحانه وتعالى 1 .
    ومن هنا تظهر مناسبةُ هذا المعنى اللغوي للعبادة لشمولية المعنى الاصطلاحي والحقيقة الشرعية للعبادة في الإسلام 2 ، فالعبادة شرعا كما يقول ابن تيمية : ” هي : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ؛ من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ؛ فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة ؛ وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة ، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه ، وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه ؛ والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله ، وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له التي خلق الخلق لها كما قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ، وبها أرسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } .. ” 3 .
    وهذا التعريف مرادف لحقيقة الديانة ، فالدين بعث اللهُ به رسولَه صلى الله عليه وسلم ليبينَ لنا ما يحبه الله ويرضاه ويأمر باتباعه ، وما يبغضه الله وينهى عنه ويأمر باجتنابه ، سواء كان موافقا لهوى العبد أم منافٍ له ؛ قال

1 ) ينظر مادة عبد من : مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص 542 ، ومختار الصحاح للرازي ص 183 ، ولسان العرب لابن منظور 10/8 وَ 9 ، والقاموس المحيط للفيروزآبادي 1/431 .
2 ) وقد جعل بعض العلماء الحقيقة اللغوية للعبادة هي نفس الحقيقة الشرعية ؛ ومنهم ابن كثير رحمه الله ؛ ينظر تفسير القرآن العظيم له 1/134 .
3 ) مجموع فتاوى ابن تيمية 10/149 .

3 / 27
الجرجاني : ” العبادة فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيما للرب ” 4 ، وهذا المعنى أيضا يجعل العبادة عامة لكل أحكام الدين التكليفية من عبادات ومعاملات من حيث الامتثال والطاعة ؛ والشاملة لكل علاقات الإنسان ، سواء كانت علاقته بربه أو بغيره ، وبهذا قد تكون العبادة صلاة وزكاة وصوما وحجا يؤديها العبد لله ، وقد تكون معاملة يؤديها كما أمر الله ، فيبيع ويشتري بما أحل الله ويجتنب الربا والعينة والغش والنجش وما حرم الله .
    ويشهد لهذا الإطلاق العام للعبادة نصوص الكتاب والسنة ؛ قال تعالى : { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) } ؛ ( سورة التوبة ) ، فعد الله عز وجل كل هذه الأعمال عبادة وعملا صالحا 5 .
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس فأتاه جبريل فقال : ما الإيمان ؟ ، قال : ” أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالعبث ” ، قال : ما الإسلام ؟ ، قال : ” الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به ، وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان ” ، قال : ما الإحسان ؟ ، قال :   ” أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ” ) 6 .
    وعنه رضي الله عنه أنه قال : ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” كل سُلامى من الناس عليه صدقة ، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقة ، ويعينُ الرجلَ على دابته فيحمل عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة ، ويميط الأذى عن الطريق صدقة ” ) 7 .
    فانظر كيف ربط صلى الله عليه وسلم بين مراتب الدين الثلاثة ( الإسلام والإيمان والإحسان ) ؛ وكيف جعل كل تلك الأعمال في الحديث الثاني صدقة والصدقة عبادة ، لأن المرء إذا ما آمن تمام الإيمان بالله عمل بمقتضى هذا

4 ) التعريفات للجرجاني ص 189 ، وعرف الحنفية والشافعية العبادة بنحو هذا التعريف ؛ ينظر القاموس الفقهي لسعدي أبي جيب ص 240 .
5 ) ينظر تفسير ابن كثير 4/234 .
6 ) أخرجه البخاري في صحيحه ؛ باب سؤال جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم ؛ برقم : 50 ، ومسلم في صحيحه ؛ باب بيان الإيمان الإسلام والإحسان ، برقم : 5 .
7 ) أخرجه البخاري في صحيحه واللفظ له ؛ باب من أخذ بالركاب ونحوه ؛ برقم : 2827 ، ومسلم في صحيحه ؛ باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف ؛ برقم : 1009 .

4 / 27
الإيمان ، وإن عمل راقب الله في عمله أيضا ، ففعل كل ما يحبه ربه ويرضى ، واجتنب ما يبغضه ربه وعنه ينهى ، وهذه هي حقيقة العبادة 8 .
    الإطلاق الخاص للعبادة :
    وللعبادة تعريف آخر يعد مضيقا وخاصا – إذا ما قارناه بالتعريف السابق – ، يظهر جليا من خلال استقراء أيٍّ من كتب الفقهاء ؛ حيث قسم الفقهاء الفقه إلى قسمين :
    الأول : العبادات ؛ وتحتها أبواب الصلاة والزكاة والصوم والحج ، وما يلحق بها من أنواع القربات والطاعات التي تنظم علاقة الفرد بربه كالطهارة والكفارات والجهاد ، وهذه الأعمال لا بد لها من نية تعبد وإرادة مقصودة 9 .
    الثاني : العادات أو المعاملات ؛ وهي الأحكام المنظمة لعلاقة الفرد بغيره من الأفراد ؛ كالبيع والنكاح 10 .
    والذي يعنينا في هذا البحث قسم العبادات ، فلقد تميز هذا القسم واهتم به العلماء لتضمنه شعائر الدين وأركان الإسلام التي يقوم عليها ؛ فأطال الفقهاء الحديث عنه وصنف بعضهم مصنفات خاصة به ، وهو الذي ينصرف إليه معنى العبادات في كتب الفقه غالبا ، وهذه الشعائر التعبدية لا تثبت إلا بنص من كتاب أو سنة أو إجماع المسلمين ؛ كما قال الشافعي رحمه الله للشيخ الذي جاءه يسأل عن الحجة في دين الله ؛ فقال الشافعي له :  ( كتابُ الله ، قال : وماذا ؟ ، قال : سنّة رسول الله ، قال : وماذا ؟ ، قال : اتفاق الأمّة ) 11 .
    شرطا قبول العبادة :
    للعبادة شرطان لاعتبار كونها مقبولة – إن شاء الله – ؛ وهما :
    1- الإخلاص ؛ فالغاية من خلق الجن والإنس عبادة الله ؛ فإن صرفت العبادة لغيره وأشرك بها سواه لم تتحقق الغاية ووقع الزيغُ والهلاك ، وانقلبت الطاعة إلى معصية ، قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) } ؛ ( سورة النساء  ) .

8 ) ويلزم من هذه الحقيقة الشاملة للعبادة أيضا ؛ إمكانية دخول البدعة في جميع الأحكام التكليفية في أبواب العبادات والعادات والمعاملات ، لأن كل ما يتعلق به الخطاب الشرعي قد يتعلق به الابتداع من جهة مضادته – كما سيأتي معنا في بيان حقيقة البدعة وأقسامها – ؛ وينظر الفروق للقرافي 4/345 وما بعدها ، ومختصر الاعتصام
للسقاف ص 13 .
9 ) ينظر اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/107 .
10 ) ينظر جامع العلوم والحكم لابن رجب 1/177-182 ، والعبادة لمحمد البيانوني ص 18 ، والبحث الفقهي لإسماعيل عبدالعال ص 115 .
11 ) أحكام القرآن لابن عبدويه الشافعي 1/39 .

5 / 27
    2- المتابعة ؛ لقوله تعالى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) } ؛ ( سورة المائدة ) ، قال ابن تيمية : ( وذلك لأن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل ، فإذا فعل فعلاً على وجه العبادة ، شُرع لنا أن نفعلَه على وجه العبادة ، وإذا قَصَد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة ، خصصناه بذلك ، كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة ، وأن يلتمس الحجر الأسود ، وأن يصلي خلف المقام ، وكان يتحرى الصلاة عند أسطوانة مسجد المدينة ، وقصد الصعود على الصفا والمروة والدعاء والذكر هناك ، وكذلك عرفة ومزدلفة وغيرهما ) 12 .
    فأي عبادة فعلت وليس فيها طاعة لله ولا متابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم فهي بدعة ؛ لأنها تشريع من غير الله لم يؤذنْ فيه ؛ قال تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } ؛ ( سورة الشورى : الآية 21 ) 13 .
    أقسام العبادة .
    تنقسم العبادة بحسب الاعتبار إلى عدة أقسام ؛ وهي :
    أولا : أقسام العبادة باعتبار محلها .
    تنقسم العبادة بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام 14 :
    1- عبادات اعتقادية ، ومحلها القلب ؛ مثل التوكل على الله والخوف والرجاء ؛ والتفكر في عظيم خلق الله .
    2- عبادات قولية ، ومحلها اللسان ؛ مثل قراءة القرآن وذكر الله .
    3- عبادات عملية ، ومحلها الجوارح والأركان ؛ مثل الزكاة والصوم والحج ، وهذا الأخير له نوعان :
    النوع الأول : عبادات بدنية 15 ، وهي : ما تؤدى بالبدن ؛ وتختص بكونها حقا لله وحده ؛ وقد يسميها بعضهم بالعبادات المحضة ، كالصلاة والصوم فهي فعل بالبدن وحق لله وحده .

12 ) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية ص 220 .
13 ) للاستزادة ينظر الإبداع في كمال الشرع وخطر الابتداع لابن عثيمين ص 4 .
14 ) وقد يقسمها بعض العلماء لخمسة أقسام ، ينظر المقدمات والممهدات لابن رشد 1/63 ، والفروق للقرافي 333-335 مع إدرار الشروق لابن الشاط ، وأضواء البيان للشنقيطي 2/198 وما بعدها .
15 ) وقد يجعل بعض العلماء لهذين الضربين قسيم ثالث ؛ وهو المشترك بينهما كالحج ، حيث عدوه عبادة بدنية ومالية ؛ ينظر المصادر بالهامش السابق .

6 / 27
    والنوع الثاني : العبادات المالية ، وهي : التي تعلقت بالمال وحده ، كالزكاة ؛ وذلك لأنها مال وحق أوجبه الله بأن يُخرج ويُؤدّى لمستحقيه 16 .
    ثانيا : أقسام العبادة باعتبار كيفيتها .
    تنقسم العبادة باعتبار الكيفية إلى مطلقة ومقيدة 17 ، والمطلقة : ما طلبت على جهة الإجمال ولم تقيد بأزمنة وأمكنة معينة 18 ، ومثالها : ذكر الله فإنه لا يتقيد بزمان ومكان ؛ قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) } ؛ ( سورة الأحزاب ) .
    أما المقيدة : كالصلوات الخمس ، وصوم رمضان وحج البيت ، فإنها مقيدة بأزمنة وكيفيات معينة جاء بها الشارع الحكيم .
    ويتضح مما سبق أن العبادة من خلال مفهوميها الواسع والضيق وتقاسيمها هي : الغاية التي خلقنا الله من أجلها ، وأنها تشريع من عند الله ؛ لها كمٌ وكيفٌ معين ؛ وصفاتٌ وأعدادٌ وهيئاتٌ محددة ، أرادها الله هكذا وعلى هذا النحو لحكم وأسرار يعلمها سبحانه ، كما بَلَّغنا رسولُه صلى الله عليه وسلم بأن نتابعه في فعلها كما فعلها ، فلا يغير منها شيء ، ولا يزاد عليها ولا ينقص منها شيء تسليما لأمر الله ، وحتى لا يشرع من الدين إلا ما أذن الله به ، فلا يعبد سبحانه إلا بما ارتضاه ، فيتم بذلك تمام التعبد له مع كمال الخضوع والتعظيم والتذلل والانقياد ، وبهذا يكون المسلم أيضا معتصما ومتمسكا بكتاب الله وسنة نبيه التي أوصى بها ، وضمن – بحول الله – السلامة من الضلالة .
    وهذا العرض السابق ؛ يلقي الضوء على أن أهم خصائص العبادة خصيصتان :
    1- أن العبادة موقوفة على النص الشرعي .
    2- أن العبادة لا يلتفت فيها إلى المعاني والحكم ، وإنما الطاعة والتسليم والامتثال .
المبحث الثاني : حقيقة البدعة وأقسامها .

16 ) ومن العلماء من يقسم العبادات باعتبار نوعها لقسمين : بدنية ومالية ؛ ويجعل ما كان بالقول والقلب من ضمن القسم البدني ؛ ينظر مجموع فتاوى ابن تيمية
24/309 وَ 322 وَ 323 وَ 366 ؛ 31/51 .
17 ) ينظر اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/147 .
18 ) المطلق في اللغة : من أطلق يقال أطلق الناقة أي فكها من عقالها ، وأطلق الأسير إذا خلى سبيله ، والمطلق اصطلاحا : هو ما تناول واحداً لا بعينه باعتبار حقيقة
     شاملة لجنسه .
     أما المقيد لغة : ما جعل فيه قيد من بعير ونحوه ، واصطلاحا : هو المتناول لموصوف بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه ، أو ما قيد لبعض صفاته .
     ينظر مختار الصحاح للرازي ص 245 ، والقاموس المحيط للفيروزآبادي 2/1200 ، وتيسير الوصول لعبدالمؤمن البغدادي الحنبلي 1/197- 198 .

7 / 27
    البدعة لغة : أصلها بَدَعَ ، وابتدع يبتدع ابتداعا أي أتى ببدعة ، واسم الفاعل مُبتَدِعٌ والمفعول مُبتَدَعٌ ، ويطلق البديع على الفاعل والمفعول ، وأبدع أي جاء بالبديع ، وبدّعه تبديعا بالتشديد نسبه إلى الابتداع ، واستبدعه أي عدّ الأمر بديعا ، والبِدعُ بالكسر المـُبتَدِع والأمر المـُـبتَدَع .
    وفي اللغة البدعة تطلق على : كل محدثة ، وعلى الاختراع ، وعلى ما كان الأول ولم يَسبق أن يُعرف مثله ، والمـُبدِع والمـُبتدِع : من أنشأ وبدأ وأحدث أمرا بلا احتذاء ولا اقتداء بأحد ولا مثال سابق ، والبديع المحدث العجيب، ومنه ابتدع الرَّكيَّة أي أحدثها ، والمُبتدَع يستعمل لما يحمد أو يذم من المحدثات ، ولكنه عرفا في الذم أكثر .
    وقال عز وجل : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ } ؛ ( سورة الأحقاف : الآية 9 ) ، أي ما كنت أول الرسل ؛ وقد أرسل قبلِي رسل كثر ، والبديع من أسماء الله تعالى ، قال سبحانه وتعالى : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) } ؛ ( سورة البقرة ) ، وقال سبحانه : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) } ؛ ( سورة الأنعام ) ، قال ابن منظور :         ( لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها ، وهو البديع الأول قبل كل شيء ، ويجوز أن يكون بمعنى مبدع ، أو يكون من بدع الخلق أي بدأه ) 19 ، واسم البدعة ( يدخل فيما تخترعه القلوب وفيما تنطق به الألسنة وفيما تفعله الجوارح ) 20 .
    ومن هذا المعنى اللغوي للبدعة تظهر المناسبة بينه وبين معنى البدعة في الشريعة ، لأن من معانيها لغة الاختراع المذموم ، وهي في حقيقتها شرعا : عمل بشري مذموم مخترع ؛ ليس له مثال سابق يضاف للشرع وهو مضاد له في حقيقة الأمر – كما سيأتي ذلك عند استعراض حقيقة البدعة شرعا – .
    البدعة شرعا .
    عرف العلماء البدعة بتعريفات كثيرة ، وساروا في ذلك وفق طرق مختلفة ، فمنهم من وسع مفهوم البدعة ومنهم من ضيقه ، ومنهم من شرح حقيقتها شرحا عاما ومنهم من أراد حدها بحد معين ، وقد يعرف أحدهم البدعة بأكثر من تعريف ، ويظهر عند استعراض بعضها نقاط التوافق والتباين لدى بعضهم في تصور حقيقة البدعة ، وسأذكر هنا جملة من أهم هذه التعريفات على هيئة ثلاثة أقسام ؛ مع بيان التعريف الأنسب منها 21 .

19 ) ينظر مادة بدع من مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص 110 ، ومختار الصحاح للرازي ص 26 ، والكليات لأبي البقاء الكفوي ص 333 ، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/106 ، والقاموس المحيط للفيروزآبادي 2/944 ، ولسان  العرب لابن منظور 2/37 .
20 ) الحوادث والبدع للطرطوشي ص 21 .
21 ) وذلك حسب وجهة نظر الباحث – والله أعلم بالصواب – .

8 / 27
    التعريف الأول :
    التعريف المشابه للمعنى اللغوي ، وممن سار على هذا النحو من العلماء :
    1- الجوهري 22 ؛ قال : ( البدعة : الحدث في الدين بعد الإكمال ) 23 .
    2- أبو بكر الطرطوشي 24 ؛ قال بعد الحديث عن أصل البدعة لغة : ( وهذا الاسم يدخل فيما تخترعه القلوب وفيما تنطق به الألسنة وفيما تفعله الجوارح ) ، ويبدو من هذا التعريف أن الإمام الطرطوشي رحمه الله رأى نقل المعنى اللغوي للحقيقة الشرعية كما هو ، وعلل هذا بقوله بعد هذا التعريف : ( والدليل على ما سنذكره في أعيان الحوادث من تسمية الصحابة وكافة العلماء بدعا للأقوال والأفعال ) ، وأضاف لهذا قيدا آخرا وهو أنه اختراع مذموم كما يدل عليه كلامه خلال ذمه للبدع وإيراد الأدلة الشرعية للبرهنة عليه 25 .
    ولا شك أن البدعة في الشريعة لها سمات أخرى أيضا غير المذكورة في الحقيقة اللغوية لها ، ومن ذلك المضاهاة للشريعة ، فإن المبتدع اخترع طريقا مشابها لطريق الشريعة ليتعبد الله به ؛ فلبّس بذلك على الناس .
    التعريف الثاني :
    التعريف المشابه للمعنى المذكور في الحديث النبوي : ” من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد ” 26 .
    وسار على هذا المنهج ثلة من العلماء ؛ منهم :
    1- ابن رجب الحنبلي 27 ؛ قال : ( المراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه ) 28 .

22 ) هو : أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري التركي ، من أوائل الذين حاولوا الطيران ، ولكنه مات في سبيله ، إمام من أئمة اللغة ، له المعجم الشهير بالصحاح
ومقدمة في النحو ، توفي عام 393هـ ؛ ينظر سير أعلام النبلاء للذهبي 17/80 .
23 ) الصحاح للجوهري 3/1184 .
24 ) هو : أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد القرشي الطرطوشي ، بضم الطائين نسبة لمدينة طرطوشة بالأندلس ، والمعروف بابن رندقه ، كان مالكي المذهب واشتهر
بديانته ، وله من الكتب الحوادث والبدع وسراج الملوك ، توفي عام 520 هـ ، وينظر الديباج المذهب لابن فرحون 2/246 ،ووفيات الأعيان لابن خلكان 4/262 .
25 ) ينظر الهامش رقم 17 ، وينظر من المصدر نفسه ص 11 وما بعدها .
26 ) أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها ؛ باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود ؛ برقم : 2550 ، ومسلم في صحيحه ؛ باب نقض
الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور ؛ برقم : 1718 .
27 ) هو : زين الدين أبو الفرج عبدالرحمن بن الحسن بن محمد البغدادي شيخ الحنابلة والحافظ الإمام ، له شرح قطعة من صحيح البخاري والقواعد الفقهية واللطائف
     وغيرها ، توفي في رجب من عام 795 ، ينظر السحب الوابلة للنجدي ص 197 .

9 / 27
    2- ابن حجر العسقلاني ؛ قال : ( والمراد بقوله كل بدعة ضلالة ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق
خاص ولا عام ) 29 .
    ويبدو أن أصحاب هذا التعريف من العلماء الأجلاء ومن ماثلهم اشتقوا تعريف البدعة من الوصف المذكور بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا حق لأن الحديث ذكر بعض السمات للبدعة وأهمها وهي مضادة السنة ، ولكن الذي يظهر – والله أعلم – أن الحديث ورد في سياق  التحذير من مغبة أن يحدث في الدين مما ليس منه ، ولم يرد لذكر جميع صفات البدعة وتعريف حقيقة كنهها بالتفصيل .
    ولذلك قد يرد على هذا التعريف الإيرادان الآتيان :
    الإيراد الأول : أن البدعة فيها مشابهة ومضاهاة للمشروع ؛ وهذه السمة لم تذكر بالتعريف السابق ولا الذي قبله .
    الإيراد الثاني : أن الإحداث في الدين مما ليس منه قد يقصد به التعبد ؛ وهذه هي حقيقة الابتداع ، وقد يقصد به التحريف والتغيير كما فعلت بعض الطوائف المنتسبة للإسلام ، فهذا لا يعد ابتداعا بل هو صريح الكفر ومحاربة الشريعة ، ولذلك فإن تعريف البدعة يحتاج لنظر أعم لنصوص الشرع الحنيف .
    التعريف الثالث :
    تعريف من قصد ذكر حقيقة البدعة شرعا ، وبيان صفتها وجميع معالمها ، بالنظر إلى مجمل النصوص ، ومنهم :
    1- الإمام أبي شامة 30 ؛ قال : ( هو ما لم يكن في عصر النبي مما فعله أو أقر عليه ، أو عُلم مع قواعد شريعته الإذن فيه وعدم النكير عليه ) 31 .
    2- شيخ الإسلام ابن تيمية ؛ قال : ( وقد قررنا في القواعد في قاعدة السنة والبدعة ، أن البدعة هي الدين الذي لم يأمر الله به ورسوله فمن دان دينا لم يأمر الله ورسوله به فهو مبتدع ) 32 .

28 ) جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 266 .
29 ) فتح الباري لابن حجر 13/254 .
30 ) هو : أبو القاسم عبدالرحمن بن إسماعيل المقدسي ، الحافظ القارئ من علماء الشافعية ، سمي بأبي شامة لوجود شامة كبيرة فوق حاجبه الأيسر ، له شرح للشاطبية
    اسمه إبراز المعاني شرح حرز الأماني وكتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية ، ينظر طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 2/133 .
31 ) الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة ص 24 .
32 ) الاستقامة لابن تيمية 1/5 ، ولابن تيمية شرح آخر لمعنى البدعة يقول فيه : ( البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله ، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا

10 / 27
    3- الشريف الجرجاني 33 ؛ قال : ( البدعة هي الفعلة المخالفة للسنة ، سميت البدعة لأن قائلها ابتدعها من غير مقال إمام ، وهي الأمر المحدث الذي لم يكن عليه الصحابة والتابعون ولم يكن مما اقتضاه الدليل الشرعي ) 34 .
    ولعل أشهر هذه التعاريف وأكثرها مناسبة لحقيقة البدعة ؛ تعريف الإمام الشاطبي رحمه الله في كتاب الاعتصام ؛ قال : ( فالبدعة إذن : عبارة عن طريقة في الدين مخترعة ، تضاهي الشرعية ، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه ، وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة ، وإنما يخصها بالعبادات ، وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول : البدعة طريقة في الدين مخترعة ، تضاهي الشرعية ، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية ) 35 .
    ويظهر من هذا التعريف أن معالم البدعة كالتالي :
    1- أنها تضاف للدين وتجعل من ضمنه ، أما لو كانت طريقة مخترعة في أمور الدنيا فلا تعد بدعة ، كاختراع الآلات والأدوات التي يستخدمها بنو آدم في أمور دنياهم ولم تعرف لها أمثلة سابقة .
    2- أنها اختراع بشري ؛ لا ينتمي للدين الإلهي ، وذلك أن ما يبتدعه الإنسان من مخترعات له نوعان :
    الأول : ما له أصل في الشرع ، فهذا مطلوب على جهة الإجمال ، فإن كل ما يخدم شريعة رب العالمين أو يخدم سائر المسلمين مراد شرعا ، لأن فيه تحقيق مصالح مطلوبة ؛ والدين مبني على المصلحة ، كعلوم اللغة والأصول التي يقصد منها فهم ألفاظ الشارع الحكيم ، وكنقط المصحف فإنه يسهل القراءة على القارئ ، وكاستخدام مكبرات الصوت لإسماع الناس الأذانَ ؛ والمصلين القراءةَ بالمساجد ، وهذا ما يسميه أهل العلم بالمصالح المرسلة .
    الثاني : ما ليس له أصل فيه الدين ، ونهى الشارع عنه على جهة الإجمال ، ومن هذا كل أمر أدى إلى محرم ، والبدعة من هذا الباب ، لأن الديانة مبنية على الاتباع والبدعة أسها الابتداع ؛ والاتباع والابتداع ضدان متصادمان، وقد تكون المصادمة صريحة كنفي أسماء الله الثابتة ، وقد تكون المصادمة خفية ، فتقع في تغيير بعض صفات العبادة

     استحباب ، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية فهو من الدين الذي شرعه الله ، وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك ، وسواء
     كان هذا مفعولاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن ) ، ينظر مجموع الفتاوى 4/ 107-108 .
33 ) هو : الشريف علي بن محمد بن علي الحسني الجرجاني ، نسبة لجرجان مدينة بين خراسان وطبرستان ، فقيه حنفي ومتكلم ، له شرح الهداية في الفقه
الحنفي وشرح المواقف العضدية في علم الكلام ، توفي عام 816 هـ ، ينظر الأعلام للزركلي 5/7 .
34 ) التعريفات للجرجاني ص 62 .
35 ) الاعتصام للشاطبي 1/47 ، وقد رجح الشيخ رحمه الله أن البدعة تدخل على العادات كما تدخل على العبادات بشروط وضوابط ذكرها في الباب السابع من كتابه .
     وهو الصحيح بحول الله ، كما يتبين من شرح التعريف .

11 / 27
لعلة متأولة ، كصيام ليلة النصف من شعبان اعتقادا بفضل ذلك ، وحاصل الأمرين مضادة الشرع بالزيادة عليه أو النقصان منه .
    3- المضاهاة للشريعة 36 : لأن أحكام الشريعة تتسم بأنها تشريع ديني من عند رب العالمين ؛ وحق له ، فلا يجوز لغيره تشريع ما لم يأذن به من أمور الدين .
    والبدعة شابهت الشريعة فاشتملت على هذا الأمر ، فهي تشريع ديني لكنه بشري ، كمن تعبد الله بالصمت ، فقد شرع الصمت عبادة ؛ وأعطاه حكم شرعيا حاصله أنه قربة لله محبوبة إليه ولذلك يفعله .
    4- أن المقصود بالطريقة البدعية كالمقصود بالطريقة الشرعية : لأن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد ، فإن كانت الشريعة عبادة فالمقصود بها التعبد لله والامتثال لأمره بطاعته ، وإن كانت تنظيما لعادات الناس ومعاملاتهم فالمقصود منها تحقيق مصالح العباد وحفظ حقوقهم ووضعها على سَنَن العدل الإلهي .
    والبدعة إن دخلت في جانب العبادة ؛ قصد بها المبتدع المبالغة في التعبد ، فسلك بهذا طريقا غير مشروع ، وإن كانت في جانب العادة ؛ فإنه يقصد من ذلك تحقيق ما يظنه عقله مصلحة له ، فخالف أمر الله ونهيه ، لأن العقل لا يستقل بمعرفة كل مصالح العباد ، وحاصل أمر الابتداع في العبادات والعادات هو مخالفة اعتقاد كمال الشرع 37 .
    ومثال ذلك ما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، يقول : ( جاء ثلاث رَهطٍ إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فلما أخبروا كأنهم تَقَالُّوهَا ! فقالوا : أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ” أنتم الذين قلتم : كذا وكذا ؟ أما والله أني لأخشاكم لله ؛ وأتقاكم له ؛ لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ” ) 38 .
    فانظر هنا كيف عدّ النبي صلى الله عليه وسلم الزواج من النساء من سنته ، وتوعد من رغب عنها ، مع أن النكاح من أمور العادات ، ولكن الامتثال لحكم الله الشرعي بإحلال النكاح ، وبعدم الامتناع منه والاعتزال للنساء

36 ) والمضاهاة في اللغة من : ضهي ، أي المشاكلة والمشابهة ، ينظر مادة ضهي من مختار الصحاح للرازي ص 172 ، والقاموس المحيط للفيروزآبادي 2/1712 .
37 ) وينظر لشرح هذا التعريف كتاب الاعتصام للشاطبي 1/47-56 ، فقد أطال المصنف رحمه الله في بيان أبعاد هذا الحد الذي حده للبدعة .
38 ) أخرجه البخاري في صحيحه واللفظ له ؛ باب الترغيب في النكاح ؛ برقم : 4779 ، ومسلم في صحيحه ؛ باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه ؛ برقم : 1401 .