27 رمضان, 1446

يرد عنهم ذلك ، وبهذا فلا أصل للعمرة في رجب 1034 .
    وأجيب عنه : بأن الآثار صحيحة وصريحة في تقصدهم العمرة في رجب .
    الترجيح :
    الذي يترجح – والله أعلم – هو القول الثاني بأنه لا بأس بقصد العمرة في رجب وأنها ليست ببدعة لأسباب ؛ منها :
    1- أن احتمال ورودها عن النبي صلى الله عليه سلم في حديث ابن عمر الذي ردته عائشة رضي الله عنها وارد ؛ لكون ابن عمر رضي الله عنه أثبت قدرا زائدا وعلمه ؛ ولم تعلمه عائشة فنفته ، والمثبت مقدم على النافي لأن معه زيادة علم .
    2- أنه ورد عن بعض كبار الصحابة مثل : عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما أنهما
اعتمرا في رجب ؛ وقد أمرنا باتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعد النبي صلى الله عليه وسلم 1035 .
    3-  كما أنه ورد عن ابن عمر رضي الله عنه وبعض التابعين تقصدهم للعمرة في رجب .
    وهذا كله يدل على كون العمرة في رجب مشروعة ؛ ولا مانع من تقصد العمرة فيه ، ولما ذكر مسبقا من كراهتهم التأخر عن البيت العتيق ؛ وحتى يكون معمورا بوسط السنة وآخرها .

1034 ) ينظر البدع الحولية لعبدالله التويجري ص 231 .
1035 ) لما ورد عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : ( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ؛ ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب ، فقال رجل : إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله ؟ قال : ” أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدٌ حبشيٌّ ، فإنه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا ، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة ، فمن أدرك ذلك منكم فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ ) ” ؛ أخرجه الترمذي في الجامع واللفظ له ؛ باب الأخذ بالسنة واجتناب البدع ؛ برقم : 2676 وقال : ( هذا حديث صحيح ) ، وأبو داود في سننه ؛ باب لزوم السنة ؛ برقم : 4609 ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة تحت الحديث رقم : 3007 ، وقد تقدم ذكره وتخريجه مسبقا في التمهيد بلفظ أبي داود .

245 / 255
الفصل الرابع : ما اختلف في بدعيته في الهدي والأضحية .
المبحث الأول : سوق الهدي لغير مكة .
    تصوير المسألة :
    الهَديُ لغة : له معاني منها السيرة ، ومنها الهدية وجمعها هدايا ؛ وهو اسم لكل ما يُهدى وينقل 1036 .
    وأما حقيقته شرعا : هو ما يُهدى تعبدا لله إلى حرم مكة ويعطى لفقراءه من قرابين الأنعام ، وهي حسب الأفضلية : الإبل ثم البقر ثم الغنم .
    وبهذا يتضح أن الهدي أو ما يهدى من بهيمة الأنعام له حقيقتان لغوية وشرعية .
    والهدي شرعا على نوعين :
    الأول : هدي التطوع ؛ وهو مستحب .
    والثاني : الهدي الواجب ؛ وهو هدي المتمتع والقارن .
    وأدخل بعضُهم فيه دمَ الجبران لمن ترك واجبا ، أو قارف محذورا ليكفر عن نفسه ، أو أُحصر فلم يستطع

1036 ) ينظر مادة هدى من مختار الصحاح للرازي ص 302 ، ولسان العرب لابن منظور 15/353 ، ومعجم المقاييس لابن فارس 6/42.

246 / 255
الحج ، أو ما أوجبه المسلم على نفسه من النذر 1037 .
    وسوق الهدي هو : الإتيان به من مكان إلى مكان ، أما سوق الهدي لمكة : فهو أمر مستحب ؛ وهو الإتيان بالهدي من خارج الحرم إليه ؛ لينحر فيه ويوزع على فقراءه ، فيجمع بذلك فيه بين الحل والحرم 1038 .
    والمراد بالمسألة هو : سوق الهدي عموما من المكان الذي سِيقَ منه إلى مكان آخر غير مكة لينحر فيه .
    تحرير محل النزاع :
    اتفق الفقهاء على أن سوق الهدي لمكة حسن 1039 ؛ واختلفوا في حكم سوق الهدي لغيرها .
    من نص على البدعية :
    1- أبو البركات أحمد الدردير ؛ قال : ” .. ( أو ) نذر ( هدي ) بلفظه أو بدنة بلفظها ( لغير مكة ) كالمدينة وقبره – عليه الصلاة والسلام – فلا يلزمه شيء ولا ذبحه بمحله ؛ لأن سوق الهدي لغير مكة من البدع والضلال لما فيه من تغيير معالم الشريعة المطهرة ” 1040 .
2- الشيخ الصاوي 1041 – حيث أقر ما قاله الدردير في حاشيته على الشرح الصغير فقال – : ” قوله : [ من البدع والضلال ] : هذا هو المشهور ، ومذهب المدونة لقولها سوق الهدايا لغير مكة ضلال .. ” 1042 .
الأقوال في المسألة :
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين .
القول الأول :
عدم المشروعية ؛ وهو قول الحنفية والمشهور عند المالكية 1043 .
أدلة القول الأول :
استدل القائلون بهذا القول بأدلة ؛ منها :

1037 ) ينظر المغني لابن قدامة 5/446-449 ، ودليل السالك للحطاب ص 212 .
1038 ) ينظر ومراتب الإجماع لابن حزم ص 42 ، وحاشية ابن عابدين 4/33 ، والشرح الكبير للدردير 2/171.
1039 ) ينظر مراتب الإجماع لابن حزم ص 154 ، ومواهب الجليل للحطاب 4/147 .
1040 ) ينظر الشرح الصغير للدردير مطبوع مع حاشية الصاوي 2/263 ، وينظر أيضا الشرح الكبير للدردير 2/171 فقد ذكر نفس العبارة إلا أنه من لم ينص على البدعية .
1041 ) هو : أبو العباس أحمد بن محمد الصاوي الخلوتي ، فقيه مالكي ومن أبرز تلامذة العلامة الدرير ، له تصانيف منها : بلغة السالك إلى أقرب المسالك المعروف بحاشية الصاوي على الشرح الصغير ، توفي بالمدينة عام 1241ه ، ينظر شجرة النور لابن مخلوف 1/364 .
1042 ) ينظر حاشية الصاوي على الشرح الصغير 2/263 ، وينظر المدونة أيضا 1/476 .
1043 ) ينظر البحر الرائق لابن نجيم 3/75 وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق للزيلعي 3/155 وحاشية ابن عابدين 4/33-36 ، والمدونة لمالك 1/476 ومواهب الجليل للحطاب 4/147 والشرح الكبير للدردير 2/171 وحاشية الصاوي على الشرح الصغير 2/263 .

247 / 255
الدليل الأول :
الآيات الدالة على أن محل سوق الهدي هو الحرم 1044 ؛ ومنها :
1- قوله تعالى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } ؛ ( سورة البقرة : الآية 196 ) .
2- قوله تعالى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } ؛ ( سورة المائدة : الآية 95 ) .
3- قوله تعالى : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) } ؛ ( سورة الحج ) .
4- قوله تعالى : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } ؛ ( سورة الفتح : الآية 25 ) .
    الدليل الثاني :
    أننا قد أمرنا بأخذ المناسك عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وقد دلت الأحاديث على أنه ساق الهدي لمكة ، ونحره هناك وأمر بذلك 1045 ؛ ومن تلك الأحاديث الدالة على خصوصية الحرم بهذا :
    1- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وأهدى فَسَاقَ معه الهدي من ذي الحليفة .. ) 1046 .
    2- عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أشعرها وقلدها أو قلدتها ثم بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة فما حُرِم عليه شيء كان له حل ) 1047 .
    3- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” كل عرفة موقف ، وكل منى منحر ، وكل المزدلفة موقف ، وكل فِجَاجِ مكة طريق ومنحر ” 1048 .
    الدليل الثالث :

1044 ) ينظر تفسير القرطبي 16/283 ، وتفسير ابن كثير 1/534 وَ 3/194 وَ 7/344 ؛ حيث فسرا المحل الذي يبلغه الهدي بأنه الحرم ، وينظر أيضا دليل السالك للحطاب ص 212 ، ومعونة أولي النهى للفتوحي 4/140 .
1045 ) ينظر معونة أولي النهى للفتوحي 4/140 .
1046 ) أخرجه البخاري في صحيحه ؛ باب من ساق البدن معه ؛ برقم : 1606 ، ومسلم في صحيحه ؛ باب وجوب الدم على المتمتع ؛ برقم : 1227 .
1047 ) أخرجه البخاري في صحيحه ؛ باب إشعار البدن واللفظ له ؛ برقم : 1612 ، ومسلم في صحيحه ؛ باب استحباب بعث الهدي إلى الحرم ؛ برقم : 1321 .
1048 ) أخرجه أبو داود في سننه واللفظ له ؛ باب الصلاة بجمع ؛ برقم : 1937 ، وأخرجه ابن ماجه في سننه ؛ باب الذبح ؛ برقم : 3048 ؛ والبيقهي في السنن الكبرى ؛ باب الحرم كله منحر ؛ برقم : 10009 ، وصححه ابن خزيمة 4/242 ، وابن الملقن في البدر المنير 6/427 ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 2464 .

248 / 255
    أن من عادات الجاهلية أن يسوقوا الهدي إلى أصنامهم أو إلى غيرها من البقاع المعظمة 1049 ، وسوق الهدي إلى غير مكة فيه مشابهة لهم ؛ وقد نهينا عن مشابهتهم .
    المناقشة :
    ونوقش : بأن سوق الهدي لغير مكة لا يكون فيه مشابهة لأهل الجاهلية إلا إن قصد به غير الله ، أما سوقه لمكان معين – دون تعظيم – لتوزيعه على فقراء ذاك المحل فلا يدخل في المشابهة .
    الدليل الرابع :
    أن سوق الهدي إلى الحرم عبادة توقيفية ؛ وخصيصة للحرم ، ومنحة لفقراءه ، فسوقه إلى غيره فيه تشبيه لغير الحرم بالحرم ، ومضاهاة للشرع 1050 .
    الدليل الخامس :
    أن الإجماع معقود على أن الهدي لا ينحر إلا بمكة أو الحرم 1051 ؛ ويلزم منه أن لا يساق إلا إلى مكة دون غيرها ليتحقق ذلك .
    القول الثاني :
    مشروعية سوق الهدي لغير مكة ، وهو قول منسوب للإمام مالك وبعض أتباعه ؛ وقول الشافعية
والمذهب عند الحنابلة 1052 .
    أدلة القول الثاني :
    استدل القائلون بهذا القول بأدلة ؛ منها :
    الدليل الأول :
    عن ثابت بن الضحاك قال : ( نذر رجلٌ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة 1053؛ فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال : إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :      “

1049 ) وسوق الهدايا لغير الله لذبحها عند النصب المعظمة ونحو ذلك شرك أكبر ؛ وللاستزادة ينظر مجموع فتاوى ابن تيمية 26/306 .
1050 ) ينظر حاشية ابن عابدين 4/33 .
1051 ) ينظر بداية المجتهد لابن رشد 2/727
1052 ) ينظر مواهب الجليل للحطاب 4/147 وينظر الشرح الكبير للدردير 2/171 وحاشية الصاوي على الشرح الصغير 2/263 ، والمجموع للنووي 8/467 ومغني المحتاج للشربيني 4/490 ونهاية المحتاج للرملي 8/232-233 ، والمغني لابن قدامة 5/453 والإنصاف للمرداوي 4/75 ومعونة أولي النهى للفتوحي 4/140 .
1053 ) بُوانة : بضم الباء وقيل بفتحها ، وهي هضبة من وراء ينبع قريبة من ساحل البحر ؛ ينظر معجم البلدان للحموي 1/505 ، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 1/430 .

249 / 255
هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ ” ؛ قالوا : لا ، قال : ” هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ ” ، قالوا : لا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” أوف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملك ابن آدم ” ) 1054 .
    وجه الدلالة : أن فيه جواز الوفاء بالنذر وأخذه لنحره في موضعه ولو كان في غير مكة .
    المناقشة :
    ونوقش : بأنه لا يلزم الناذر بأن ينحر إبلا ببوانة أن يسوقها من خارج بوانة أو من بلده ، بل يجوز له أن يفي بنذره بأن ينحر ما يجده من الإبل ببوانه .
    وأجيب عنه : بأنه لو نذر بأن ينحر إبلا معينة في مكان محدد ؛ فلا حرج من أخذها معه حتى يبلغ ذلك المكان وينحرها .
    الدليل الثاني :
    أنه تقرر مسبقا أن الهدي هو ما يهدى إلى مكة من الأنعام تقربا إلى الله ، وأن منه الواجب والتطوع ، وما كان كذلك فلا يساق لغير مكة اتباعا للشرع ، أما سوق غيره من أنواع الهدايا والنعم ليبلغ بلدا معينا فيعطى لأهله ويوزع على فقراءه ، سواء كان ذلك تصدقا أو وفاء بالنذر ، فلا دليل على منعه .
    سبب الخلاف وثمرته :
    يبدو أن سبب الخلاف راجع إلى تردد الهدي بين حقيقته اللغوية وحقيقته الشرعية ؛ فمن رأى أن الهدي لا يكون إلا كما ذكر في حقيقته شرعا ؛ فإنه يراه عبادة ولا بد أن يساق إلى مكة ، كما فعل وأمر صلى الله عليه وسلم ؛ لأن العبادات مبنية على التوقيف .
    وأما من رأى أن الهدي قد يطلق على حقيقته اللغوية والشرعية أيضا ؛ وأن الشارع قد يستعمل لفظ الهدي في حقيقته الشرعية ؛ كما في الآيات والأحاديث المذكورة ضمن الدليل الأول والثاني لأصحاب القول الأول ، وقد يستعمله في حقيقته اللغوية ؛ كما ورد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :    ” من اغتسل ثم راح إلى المسجد فكأنما أهدى بدنة ، ومن اغتسل ثم راح في الساعة الثانية فكأنما أهدى بقرة ، ومن اغتسل ثم راح في الساعة الثالثة فكأنما أهدى كبشا ، ومن اغتسل ثم راح في الساعة الثالثة فكأنما أهدى دجاجة ، ومن اغتسل ثم راح في الساعة الخامسة فكأنما أهدى بيضة … ” 1055 – ومن المعلوم أن هذا ليس

1054 ) أخرجه أبو داود في سننه واللفظ له ؛ باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر ؛ برقم : 3313 ، وابن ماجه في سننه ؛ باب الوفاء بالنذر ؛ برقم : 2131 ، وصححه ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم و 1/490 ، وابن الملقن في البدر المنير 9/518 ، والألباني في مشكاة المصابيح 2/282 ، وينظر المغني لابن قدامة 5/453 .
1055 ) أخرجه ابن الأعرابي في معجمه 2/861 ؛ برقم : 1794 ، وقد أخرجه البخاري في صحيحه بلفظ : ( قَرَّبَ دجاجة ) بدلا من :

250 / 255
بالهدي الواجب في الحج لأن هدي الحرم ليس فيه الدجاج والبيض – فإنه يُجوَّزُ الهدي لغير مكة ؛ إلا إن ارتبط الهدي بالحرم ؛ وهو الهدي في حقيقته الشرعية .
    ولذلك قال ابن النجار الفتوحي : ” وكل هدي أو إطعام يتعلق بحرم أو إحرام ؛ كجزاء صيد ؛ وما وجب لترك واجب أو فوات ؛ أو بفعل محظور في حرم وهدي تمتع وقران ومنذور ونحوها فهو لمساكين الحرم ” 1056 .
    وقال ابن عابدين الحنفي بعد أن عرف الهدي شرعا : ” فإطلاق الفقهاء في باب الأيمان والنذور الهدي على غيره مجاز ” 1057 .
    الترجيح :
الذي يظهر – رجحان القول الثاني – بأن سوق الهدايا لغير مكة مشروع وليس ببدعة لأسباب ؛ منها :
1- عدم وجود ما يمنع من ذلك .
2- أن الهدي له حقيقتان ؛ أو أنواع ، فالهدي بمعناه اللغوي أو ما لم يتعلق بالحرم والإحرام فهذا يجوز للمسلم سوقه لغير مكة إن كان صدقة وإحسانا أو كان وفاء بالنذر ، أما الهدي بمعناه الشرعي أو ما تعلق منه بالحرم والإحرام فهذا بموجب الأدلة لا ينحر إلا بموضعه المحدد شرعا .

( أهدى دجاجة ) ؛ باب فضل الجمعة ؛ برقم : 881 ، وينظر شرح صحيح البخاري لابن بطال 2/482 .
      ومثله أيضا  لفظ الصلاة ؛ فله حقيقة لغوية : وهي الدعاء ؛ كما قال تعالى : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } ؛ ( سورة التوبة: الآية 103 ) ؛  وكما قال صلى الله عليه وسلم : ” أن من صلّى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا ” ، وقد جاء عن كعب بن عجرة رضي الله عنه ، قيل : ( يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ قال : ” قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ” ) ؛ – تقدم تخريجه – وقد يسمى هذا عند بعضهم بالصلاة الإبراهيمية .
     ولفظ الصلاة أيضا له حقيقة شرعية خاطبنا بها الشارع ؛ وهي : تلك الأقوال والأفعال المخصوصة التي تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم .
     وينظر مجموع فتاوى ابن تيمية 1/349 وَ 10/238 ، وشرح العمدة له 4/30 .
1056 ) ينظر معونة أولي النهى للفتوحي 4/140 .
1057 ) حاشية ابن عابدين 4/33 ، وينظر دليل السالك للحطاب ص 212 .

251 / 255
المبحث الثاني : قول المضحي عند ذبح أضحيته : ” اللهم هذا منك وإليك ” .
    تحرير محل النزاع :
    اتفق الفقهاء على مشروعية التسمية عند الذبح 1058 ؛ واختلفوا في حكم بعض الأدعية التي تقال عند ذلك على أقوال ، ومن تلك الأدعية قول : ” اللهم هذا منك وإليك ” .
    من نص على البدعية :
    نص على بدعية قول : ” اللهم هذا منك وإليك ” عند التضحية بعض أهل العلم ؛ منهم :
    1- الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى ؛ حيث جاء بالمدونة : ” فقلت لمالك : فهذا الذي يقول الناس  ( اللهم منك وإليك ) ؟ فأنكره ، وقال : هذا بدعة ” 1059 .
    2- الطرطوشي ؛ حيث ذكره ضمن فصل في جوامع من البدع ؛ ونقل قول الإمام مالك السابق 1060 .
    الأقوال في المسألة :
    اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال .

1058 ) ينظر الإفصاح لابن هبيرة 1/310 ، والمغني لابن قدامة 13/390 .
1059 ) المدونة الكبرى لمالك 1/544 ؛ وممن نقل نص الإمام مالك على البدعية : القرطبي في تفسيره 12/65 ؛ والنفراوي في الفواكه الدواني 2/852 .
1060 ) ينظر الحوادث والبدع للطرطوشي ص 144 ، وقد تابعه ابن أبي علفة في معجم البدع ص 235 .

252 / 255
    القول الأول :
    الكراهة ؛ وهو قول منسوب لبعض الحنفية ، وهو المذهب عند المالكية 1061 .
    أدلة القول الأول :
    استدل القائلون بهذا القول بدليلين .
    الدليل الأول :
    أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك وعينه عند التضحية ، والأصل في العبادات الحظر حتى يرد المبيح 1062 .
    المناقشة :
    ونوقش : بأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قول ذلك عند التضحية – كما سيأتي – .
    الدليل الثاني :
    أن هذا الدعاء لم يكن عليه عمل أهل المدينة ، وعملهم حجة .
    المناقشة :
    ونوقش من وجهين :
    أولا : أن كل إنسان يُؤخذ من قوله ويرد ، والحجة ليست في قول أحد ؛ غير الله ورسوله .
    ثانيا : أنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك – كما سيأتي – .
    القول الثاني :
    الجواز ؛ وهو قول لبعض المالكية والشافعية 1063 .
    أدلة القول الثاني :
    استدل القائلون بهذا القول بأن هذه الصيغة لا تستحب لكونها لم ترد عن الشارع ؛ ولكنها تحتوي على الدعاء والاعتراف بالنعمة والرزق لله سبحانه فيجوز قولها 1064 .
    المناقشة :
    ونوقش : بأن هذا الدعاء وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم – كما سيأتي – ، ولو لم يرد فإن تخصيص

1061 ) وقد نسبه الماوردي في الحاوي الكبير لأبي حنيفة 15/220 ، وينظر لقول المالكية المصادر بالهامش السابق ؛ وينظر أيضا : البيان والتحصيل لابن رشد 3/280 ومواهب الجليل للحطاب 4/334 وحاشية الصاوي 2/ 146والخلاصة الفقهية للقروي ص272 .
1062 ) ينظر تفسير القرطبي 12/65 .
1063 ) ينظر إكمال المعلم للقاضي عياض 6/211 ، والحاوي الكبير للماوردي 15/220 والمجموع شرح المهذب للنووي 8/410 .
1064 ) ينظر الحاوي الكبير للماوردي 15/220 .

253 / 255
هذه الصيغة والتزامها عند التضحية بلا دليل مبيح يعد بدعة ، فالعبادات مبنية على التوقيف .
    القول الثالث :
    الاستحباب ؛ وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة ، واختيار ابن تيمية وابن القيم والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين واللجنة الدائمة للإفتاء 1065 .
   
    أدلة القول الثالث :
    استدل القائلون بهذا القول بدليلين .
    الدليل الأول :
    عن جابر بن عبد الله الأنصاري : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذبح يوم العيد كبشين ، ثم قال حين وجههما : ” إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ، حنيفا مسلما وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونُسُكِي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ، بسم الله ، الله أكبر ، اللهم منك ولك عن محمد وأمته ” 1066 .
    الدليل الثاني :

1065 ) ينظر المبسوط للسرخسي 12/7 وتبيين الحقائق للزيلعي 5/289 والبحر الرائق لابن نجيم 8/192 ومجمع الأنهر لشيخي زاده 4/155 والاختيار لتعليل المختار للموصلي 5/23 ، والأم للشافعي 2/240 والمجموع للنووي 8/407 وَ 410 وأسنى المطالب للأنصاري 1/541 والإقناع للشربيني 2/243 ونهاية المحتاج للرملي 8/147 وتحفة الحبيب للبجيرمي 5/194 ، والكافي للموفق بن قدامة 1/542 والشرح الكبير لعبدالرحمن بن قدامة 3/549 وشرح الزركشي 3/289 والمبدع لابن مفلح 3/204 والفروع لابن مفلح مع تصحيح الفروع للمرداوي 6/91 والإنصاف للمرداوي 4/60 والإقناع للحجاوي 1/403 ، والفتاوى الكبرى لابن تيمية 5/149 ومجموع فتاوى ابن تيمية 26/309 ، وتحفة المودود لابن القيم ص 70 ، ومجموع فتاوى ابن باز 16/77 ، ومجموع فتاوى ابن عثيمين 25/55 ، وفتاوى اللجنة الدائمة 10/440 الفتوى رقم : 20127 .
1066 ) أخرجه أبو داود في سننه واللفظ له ؛ باب ما يستحب من الضحايا ؛ برقم : 2795 ، وابن ماجه في سننه ؛ كتاب الأضاحي ؛ برقم: 3121 ، وقد أخرج نحوه الإمام أحمد في مسنده 3/375 برقم 15064 ؛ وقال محقق المسند الشيخ شعيب : ( إسناده محتمل للتحسين ) ، والدارمي في مسنده 2/1239 ، وأبي يعلى في مسنده 5/427 ، وأبي عوانة في مسنده 5/63 ، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/177، والطبراني في الدعاء ص 295 برقم : 950 ، وأخرجه الحاكم في المستدرك وصححه 1/467 برقم : 1716 ، والبيهقي في السنن الكبرى 9/287 ، وأبو نعيم في الحلية 8/178 وقال : ( مشهور من غير وجه غريب من حديث يحيى ) ، وصححه الزيلعي في نصب الراية 4/185 ، وابن الملقن في البدر المنير 9/316 ، وابن حجر فيما نقل عنه ابن علان بالفتوحات الربانية 5/22 ، وصححه الألباني في إرواء الغليل برقم : 1138 وَ 1152 ؛ وقرر أيضا بالإرواء 4/350 ( أن جملة اللهم هذا منك ولك لها شاهد عند أبي يعلى ) ، ويفهم من فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء – السابق ذكرها برقم : 20127 – باستحباب هذا الدعاء أنها ترى صحة الحديث .

254 / 255
    أن هذا الدعاء ورد عن بعض الصحابة والتابعين ، ومن ذلك :
    1- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ( يقول الله تبارك وتعالى : { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } – ( سورة الحج : الآية 36 ) – ؛ قال : قياما على ثلاث قوائم معقولة ؛ بسم الله والله أكبر ؛ اللهم منك وإليك ) 1067 .
2- عن سعيد قال : ( سُئل قتادة 1068 : كيف تنحر العقيقة ؟ قال : يستقبل القبلة بها ، ثم يضع الشفرة على حلقها ، ثم يقول : اللهم منك ولك عقيقة فلان ، بسم الله ، الله أكبر ، ثم يذبحها ) 1069 .
المناقشة :
ونوقش : بأن هذا خاص بالعقيقة دون الأضحية .
وأجيب عنه : بأن ورد للأضحية بأحاديث أخرى .
سبب الخلاف :
يظهر – والله أعلم – ؛ أن سبب الخلاف يعود لأمرين :
الأول : اختلاف الفقهاء في صحة ثبوت هذه الأحاديث وألفاظها .
الثاني : كون هذه الأحاديث مخالفة لأصول بعضهم ، كما خالف هذا الحديث عمل أهل المدينة عند المالكية .
الثالث :كون بعضهم استحب تجريد التسمية من الدعاء .
وقد اعتذر القرطبي رحمه الله للإمام مالك بأن هذا الحديث لم يبلغه أو لم يصح عنده أو لكونه مخالف لعمل أهل المدينة ، وهذا يفسر سبب وصف الإمام مالك لهذا العمل بأنه بدعة 1070 .
الترجيح :
الذي يظهر – والله أعلم – أن القول الثالث باستحباب قول هذا الدعاء عند التضحية هو الراجح لأسباب ؛ منها :

1067 ) أخرجه وكيع بن الجراح في نسخة وكيع عن الأعمش ص 56 ، والحاكم في المستدرك 4/233 برقم : 7571 وقال : ( هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ) ، والبيهقي في الصغرى 4/445 برقم : 1767 ، والأحاديث المختارة للضياء المقدسي 10/17 برقم : 7 ، وصححه ابن حجر في الدراية 2/206 ، ونقل تصحيحه عن ابن حجر أيضا ابن علان في الفتوحات 5/22 .
1068 ) هو : أبو الخطاب قَتَادة بن دِعامة بن قتادة السدوسي البصري ، تابعي حافظ ثقة روى عن أنس بن مالك وغيره ؛ وروى عنه خلق كثر واشتهر بالتدليس ، توفي بالطاعون وله 56 سنة في عام 117 ه ، ينظر تهذيب الكمال للمزي 6/99 .
1069 ) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 5/116 ؛ برقم : 24271 .
1070 ) ينظر تفسير القرطبي 12/65 ، وينظر أيضا إكمال المعلم للقاضي عياض 6/211 .

255 / 255
1- ضعف أدلة القول الأول والثاني ؛ حيث إن غاية أدلتيهما عدم العلم بورود الدليل وصحته ، وعدم العلم لا يستلزم علم العدم على كل حال .
2- أنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض صحابته ومن تبعهم بإحسان قول هذا الدعاء عند التضحية .
**************