16 رمضان, 1446
بِرُّ الوَالِدَيْنِ
12/6/1446هـ
الخطبة الأولى
الحَمْدُ للهِ الآمِرِ بِالبِرِّ وَالإِحْسَانِ، النَّاهِيْ عَنِ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ هَدَانَا لِلْإِيمَانِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا ﴾ [النساء: 1] أَمَّا بَعْدُ .. عِبَادَ اللهِ: جُبِلَتِ النُّفُوْسُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا، وَلَيْسَ أَعْظَمُ إِحْسَانًا وَلَا أَكْثَرُ فَضْلًا -بَعْدَ إِحْسَانِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَفَضْلِهِ- مِنْ إِحْسَانِ الْوالِدَيْنِ وَفَضْلِهِمَا؛ فَقَدْ فَطَرَهُما اللهُ عَلَى الْحُبِّ وَالرَّحْمَةِ، فَكَمْ نَصَبَا لِتَسْتَرِيحَ، وَكَمْ سَهِرَا لِتَرْقُدَ، وَكَمْ جَاعَا لِتَشْبَعَ، وَكَمْ عَطِشَا لِتَرْتَوِيَ، فَلَنْ تَجِدَ أَصْدَقَ حُبًّا لَكَ مِنْهُما، وَلَا أَرْحَمَ بِكَ مِنْ قَلْبَيْهِما.
عِبادَ اللهِ: قَرَنَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ حَقَّ الوَالِدَيْنِ بِحَقِّهِ، فَأَوْجَبَ سُبْحَانَهُ عِبَادَتَهُ وَتَوْحِيْدَهُ، ثُمَّ ثَنَّى بِبِرِّ الْوالِدَيْنِ؛ وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِعِظَمِ حَقِّهِمَا، وَجَزِيْلِ فَضْلِهِمَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾[النساء: 36]. وَمَدَحَ -سُبْحَانَهُ- أَنْبِياءَهُ -عَلَيْهِمُ السَّلامُ- بِبِرِّ الْوالِدَيْنِ، قالَ تَعالَى عَنْ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا﴾ [مريم: 14]، وَقالَ سُبْحانَهُ وَتَعالَى عَنْ عِيْسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ [مريم: 32]، وَجاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ e يُرِيدُ الْجِهادَ مَعَهُ، فَسَأَلَهُ e: «حَيَّةٌ أُمُّكَ؟»، فَقالَ الرَّجُلُ: نَعَمْ. فَقَالَ e: «اِلْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنّةُ» [صححه الألباني]، وَقالَ e: «الْوالِدُ أَوْسَطُ أَبْوابِ الْجَنَّةِ» [صححه الألباني]. وَقالَ e: «رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ»، قِيلَ: مَنْ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: «مَنْ أَدْرَكَ أَبْوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهِما أَوْ كِلَيْهِما فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» [رواه مسلم]، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ النبيَّ e: أيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قالَ: «الصَّلاةُ علَى وقْتِها»، قالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قالَ: «برُّ الوالِدَيْنِ»، قالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قالَ: «الجِهادُ في سَبيلِ اللَّهِ». [متفق عليه]. فِي هَذَا الحَدِيْثِ الشَّرِيْفِ تَصْرِيْحٌ وَاضِحٌ بِأَنَّ بِرَّ الوَالِدَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى الجِهَادِ فِي سَبِيْلِ اللهِ، الَّذِيْ هُوَ ذِرْوَةُ سَنَامِ الِإسْلَامِ.
هَذَانِ مَنْ لَيْسَ بَعْدَ اللهِ غَيْرُهُمَا
يُرْجَى رِضَــاهُ وَلَا يُعْصَى بِبُهْتَــــانِ
فَـلَا تَقُلْ لَهُمَـــا قَوْلًا يَسُــــوْؤُهُمَا
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ مِنْ ذُلٍّ وَعِرْفَانِ
إِخْوَةَ الإِيْمَانِ: الوَالِدَانِ الـمُسْلِمَانِ بِرُّهُمَا وَاجِبٌ، وَالإِحْسَانُ إِلَيْهِمَا مُتَعَيِّنٌ، وَطَاعَتُهُمَا مُتَحَتِّمَةٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ الوَالِدَانِ غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْشَدَنَا إِلَى مُصَاحَبَتِهِمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوْفًا، حَتَّى لَوْ كَانَا يَأْمُرَانِ أَوْلَادَهُمَا بِمَا لَا يُرْضِي اللهَ تَعَالَى، فَوَجَّهَنَا اللهُ سُبْحَانَهُ إِلَى عَدَمِ طَاعَتِهِمَا فِي الـمَعْصِيَةِ، مَعَ مُصَاحَبَتِهِمَا بِالـمَعْرُوفِ، قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [ لقمان: 15].
هَذَا فِي حَالِ الشِّرْكِ يَا عِبَادَ اللهِ؛ فَكَيْفَ يَكُوْنُ حَقُّهُمَا وَهُمَا مُسْلِمَانِ؟!
وَقَدْ سَطَّرَ سَلَفُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ وَأَجْمَلَ الدُّرُوْسِ فِي بِرِّ الوَالِدَيْنِ فَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: “بَلَغَتِ النَّخْلَةُ عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَعَمَدَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ إِلَى نَخْلَةٍ فَنَقَرَهَا وَأَخْرَجَ جُمَّارَهَا، فَأَطْعَمَهَا أُمَّهُ، فَقَالَوا لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ وَأَنْتَ تَرَى النَّخْلَةَ قَدْ بَلَغَتْ أَلْفًا، فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي سَأَلَتْنِيهِ، وَلَا تَسْأَلُنِي شَيْئًا أَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهَا” [أخرجه الحاكم في المستدرك]. وَلَمَّا ماتَتْ أُمُّ إِياسِ بْنِ مُعاوِيَةَ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: ما يُبْكِيكَ؟! قالَ: “كانَ لِي بابانِ مَفْتُوحانِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأُغْلِقَ أَحَدُهُما” [البداية والنهاية: 9/338].
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الـمُنْكَدِرِ: “بَاتَ أَخِيْ عُمَرُ يُصَلِّيْ، وَبِتُّ أَغْمِزُ قَدَمَ أُمِّيْ” -يَعْنِيْ يُدَلِّكُهَا وَيُلَيِّنُهَا وَيُؤَانِسُهَا- قَالَ: “وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لَيْلَتِيْ بِلَيْلَتِهِ!”[سير أعلام النبلاء: 5/359].
عِبَادَ اللهِ: اعْلَمُوْا أَنَّ بِرَّ الوَالِدَيْنِ سَبَبٌ فِي سَعَةِ الرِّزْقِ، وَطُوْلِ العُمُرِ، وَالسَعَادَةِ فِي الحَيَاةِ، وَحُسْنِ الخَاتِمَةِ، والفَوْزِ فِي الآخِرَةِ، أَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا ٢٣ وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا﴾ [ الإسراء: 23-25]، وَأَوْرَدَ الْبُخارِيُّ حَدِيثَ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ حَبَسَتْهُمْ صَخْرَةٌ فِي غارٍ، فَسَأَلُوا اللهَ بِأَرْجَى أَعْمالِهِمْ حَتَّى يُفَرَّجَ عَنْهُمْ، فَدَعَا أَوَّلُهُمُ اللهَ بِأَنَّهُ كانَ لَهُ أَبَوانِ شَيْخانِ كَبِيرانِ، وَكَانَ يَحْلِبُ لَهُما، وَلَا يُقَدِّمُ عَلَيْهِما أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ، وَعادَ يَوْمًا مُتَأَخِّرًا، فَوَجَدَهُما قَدْ نَامَا، فَوَقَفَ وَالْقَدَحُ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَسْقِ أَوْلادَهُ، حَتَّى اسْتَيْقَظَا فِي الْفَجْرِ وَشَرِبَا، فَقالَ: “اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ” فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَسْتَمِعُوْنَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُوْنَ أَحْسَنَهُ، وَاحْفَظْنَا يَا رَبِّ مِنَ الفُحْشِ فِي الأَعْمَالِ وَزَلَّاتِ الأَلْسِنَةِ.
أَقُوْلُ قَوْلِيْ هَذَا.. وَأَستَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيْمُ.