9 جمادي أولI, 1446
.سؤال من أخ فاضل…
تركتُ مبلغاً كثيراً عند صديقي أمانةً وسافرت، ثم أُخبِرت بأنه تاجر فيه بغير علمي، وحقق أرباحاً كثيرة، هل من حقي شرعاً أن أطالبه بالربح أو بجزء من الربح أو لا يحق لي ذلك؟
الجواب….
المبلغ الذي تركتَه عند هذا الصديق يسمي في الشريعة الإسلامية : ” وديعة “، ويأخذ أحكامها، ومن أحكامها ما يلي:
1 ـ الأصل أن تُحفظ الوديعة في موضع مستقل وأن لا تُستعمَل إلا بإذن مالكها، لقول الله تعالى: ” والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون “.
2 ـ فإن استُعملت بغير إذن مالكها كان ذلك حراماً عند بعض الفقهاء، ومكروهاً عند آخرين.
3 ـ أما حكم الأرباح الناتجة عن الاتجار بمبلغ الوديعة المذكور في السؤال بدون إذن صاحبها فللفقهاء فيها خمسة أقوال:
القول الأول: أن الربح لصاحب الوديعة، لأنه نماء ملكه، وهو مروي عن بعض فقهاء السلف، منهم إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى.
القول الثاني: أن الربح للوديع الذي عمل بالمبلغ وربح، إذ هو ثمرة عمله وجهده، وإنما يستحقه بضمانه، لأن ضمان الوديعة وقت الاتجار بها منه، وبه قال مالك وبعض فقهاء السلف رحمهم الله تعالى.
القول الثالث: أنه يجب التصدق بالربح، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وحجته أن الربح الحاصل بسبب خبيث وهو العدوان على حق الغير ومخالفة الأمر بحفظ الأمانة، وسبيل هذا التصدق بالربح ؛ لما شابه من تدليس وتغرير للآخرين بأن المستودَع يتاجر في ماله، وقد جاء في حديث رواه أحمد والحاكم وصححه.عن قيس بن أبي غرزة الكناني رضي الله عنه، قال: ” كنا نبتاع الأوْسَاق بالمدينة، وكنا نُسمَّى السماسرة، قال: فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمانا باسم هو أحسن مما كنا نسمي به أنفسنا فقال: يا معشر التجار، إن هذا البيع يحضره اللغو والحلِف، فشوبوه بالصدقة “.
القول الرابع: أن الربح يكون بين الوديع والمودِع، فيقتسمانه بينهما كالمضاربة وما فيها من مخاطرة وجُهد، وذلك بحسب معرفة أهل الخبرة، وهو رواية عن الإمام أحمد ورجحه ابن تيمية رحمهما الله تعالى، وبه حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين تاجر ابناه في مال بيت المسلمين، الذي أعطاهما إياه والي العراق ليوصلاه إلى عمر أمير المؤمنين.
القول الخامس: أن الربح لبيت المال، وهو مروي عن بعض فقهاء السلف، منهم عطاء بن ابي رباح؛ وذلك بناء على اجتهاد عمر الأول، في أول قصته مع ابنيه.
أما قصة عمر وولديه رضي الله عنهم فهي كما يلي:
روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه رضي الله عنه: قال: ” خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهم في جيش إلى العراق، فلما قفَلا مرَّا على أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، فرحَّب بهما وسهَّل، وهو أميرُ البصرة، فقال: لو أقدِر لكما على أمر أنفعُكُما به لفعلتُ، ثم قال: بلى، هاهنا مالٌ من مال الله، أُريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأُسْلِفُكُمَاهُ فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق، فتبيعانه في المدينة، ففعلا، فكتب إلى عمر رضي الله عنه يأخذ منهما المال، فلما قدما المدينة باعا وربحا، فلما رفعا ذلك إلى عمر قال: أكلُّ الجيش أسلفه كما أسلفَكُما؟ قالا: لا، قال عمر : ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما!! أدِّيا المالَ ورِبْحَه، فأما عبد الله فسلَّم، وأما عبيدُ الله فقال: لا ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو هلَك المالُ أو نقَص لضمنَّاه، قال: أدِّياه، فسكتَ عبد الله، وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر بن الخطاب: لو جعلتَه قِراضاً ـ أيْ: مضاربة ـ فقال: قد جعلتُه قِراضاً، فأخذ عمر بن الخطاب المالَ ونصفَ ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله نصفَ ربح المال “.
وبعد الذي تقدم أميل إلى ما ذهب إليه عمر رضي الله عنه وهو اقتسام الربح بين الوديع والمودِع، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ” عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين …”.
علماً بأن على الذي تاجر بمال غيره من دون علمه ضمانُه وردَُه إليه كاملاً غير ناقص فيما لو خسرت تجارته، للآية: ” إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها “.