1 ربيع أولI, 1446
* عندما عرفت الفقيد أبا زاهرة عن قرب وقتها كتبت عنه بكل فرح وسرور. كتبت يوم ذاك وكأني أكتب عن نفسي. لماذا قلت: كأني أكتب عن نفسي، وأنا أكتب هنا عن شخصية أبي زاهرة..؟
* الواقع أني بدأت حياتي الإعلامية مذيعاً قبل أن أكتب للصحافة، ولكن الإذاعة التي سمحت لصوتي بأن ينطلق من مايكروفونها لم تكن إذاعة جدة، ولا إذاعة الرياض- كما هو الحال مع أبي زاهرة – بل هي إذاعة مدرسة عكاظ المتوسطة بالطائف. في الأعوام 1387 هـ و1388هـ و1389هـ، قبل أن أتخرج فيها وأنتقل إلى معهد المعلمين الثانوي. في تلك الأعوام كنت وأنا تلميذ مرحلة متوسطة مسؤولاً عن إذاعة المدرسة، وسكرتيراً لمكتبة المدرسة، وهما تحت إشراف الأستاذ: (عيسى بن علي العكاس) – متعه الله بالصحة – الذي أدخلني عام 1388هـ إلى بلاط صاحبة الجلالة (الصحافة) من بوابة (المرحومة) صحيفة الندوة. ولهذه الوظيفة وتلك في مكتبة المدرسة وإذاعتها قصة لم يعرفها أحد حتى اليوم، فقد رأيت زملائي إذا خرجوا إلى الفسحة راحوا يشترون ما يأكلون ويشربون؛ لأن جيوبهم عامرة بالنقود، إلا أنا وبعضاً آخر من أندادي، ليس لدينا ما لديهم؛ ففضلت الانزواء عن هذا المشهد المحرج داخل جدران المكتبة المدرسية، حيث تقع إذاعة المدرسة كذلك، فأقدِّم برامج ومقالات كنت أكتبها في الدار مساء، وألقيها على مسامع زملائي صباحاً في الفسحة وهم يأكلون ويشربون..! فكنت أحرر صحيفة مذاعة عبر (المايكروفون)، اسمها: (الحيّة الرقطاء)، وأقصد بها إسرائيل، وهي صحيفة يومية، وأطعِّم برامج إذاعتي بوصلات موسيقية، منها موسيقى أطلس على سبيل المثال.
* أعود إلى فقيدنا المذيع اللامع (أبو زاهرة) -رحمه الله- الذي عاد بي الكلام عليه إلى سنوات خلت؛ فهو -على ما يبدو- اشتغل بالتدريس والإشراف التربوي قبل العمل الإذاعي، عكسي تماماً، وهو صوت مسموع من قِبل آلاف وملايين الناس، بينما لم يكن يسمعني في مدرستي تلك سوى المئات.
* كنت أعرف الفقيد (أبو زاهرة) صوتيًّا منذ أعوام وأعوام، قبل أن ألتقيه وجهاً لوجه. إن المشتغلين في الإذاعة والتلفزة والصحافة هم شخصيات عامة في العادة، يعرفهم الناس حتى لو لم يروهم ولم يلتقوا بهم، وصوت الأستاذ (أبو زاهرة) عبر البرنامج الثاني كان واسطة التعريف بيني وبين هذا العَلم الإعلامي في وطننا الحبيب.
* قدّم أبو زاهرة الكثير من البرامج من إذاعتَي نداء الإسلام والبرنامج الثاني. قدم طائفة من أقوال الرسول – صلوات الله وسلامه عليه – وكان يقدم شواهد من القرآن الكريم الذي كان يكتبها الفقيه اللغوي (أبو تراب الظاهري) -رحمه الله- ثم طبعت بعد ذلك في كتاب. وقدم أبو زاهرة برنامج: (دروس من الحرمين)، و(علماء من الحرمين)، وكذلك قدَّم برنامجًا لغويًّا طريفًا وهادفًا، اسمه: (اللغة الخالدة)، من إعداد الأستاذ: (بندر الجودي)، وقدَّم برنامجين رائعين، هما: (من التراث الأدبي)، و(رمضانيات).
* كان الأستاذ (عبيد الله أبو زاهرة) صوتًا إذاعيًّا مميزًا، وهو علامة بارزة ضمن كوكبة مذيعي الإذاعة السعودية، خاصة في برنامجها الثاني من جدة؛ فهو إلى جانب تخصصه في اللغة العربية، وإجادته لها ولأسرارها، يملك صوتاً فريداً، وحضوراً سمعياً، قلّ أن نجد مثيلاً له بين مذيعينا اليوم. ومما هو واضح أنه كان يملك ثقافة واسعة، وله اطلاع بكتب اللغة والأدب والتراث، وله جهود في إعداد برامج كان هو معدها ومقدمها طوال حياته العملية.
* لم أعرف الوجه الآخر لفقيدنا أبي زاهرة إلا بعد أن قابلته شخصياً بصحبة صديق الطرفين الأستاذ صابر المحمدي، وكذلك برفقة الأديب والناشر الأستاذ: (عبد الرحمن بن معمّر)؛ فبعد هذا اللقاء الذي أسعدني حقيقة وقفت على أبي زاهرة الشاعر، الذي كتب قصائد كثيرة، ونشرها عبر صحيفة البلاد، ووجدت أنه يجسد إنسانيته المتجلية في شعره، في تأطير قضايا اجتماعية وإنسانية، وسكبها في أبيات نازفة أمام الرأي العام. وهذا جانب آخر يضاف إلى ما أسهم به أبو زاهرة في خدمة وطنه ومجتمعه بكل تجرد وشفافية.
* بعد الرحيل المر الذي فاجأنا عصر يوم الخميس قبل الفارط لا نملك إلا الدعاء وطلب الرحمة للصديق والزميل الأديب الإذاعي الشاعر: (عبيد الله أبو زاهرة)، الذي يعد – بحق – مدرسة لشبابنا في الميدان الإذاعي والإعلامي، ومثلاً يحتذى في نجاحاته العملية، وفي أخلاقه وإنسانيته. وعسى أن يوفق صديقنا المشترك الأستاذ: (صابر المحمدي) في إخراج الكتاب التوثيقي الذي بدأ في إعداده عن حياة المرحوم: (عبيد الله بن علي أبو زاهرة).