8 جمادي أولI, 1446


شفاعة المصالح
اسم المؤلف:
الدكتور / سعود بن عبد الله الروقي
لما كانت الشفاعة نوع توسط لترميم نقيصة أو لحيازة مزية ونحو ذلك، كان لها نوع سببية لإصلاح شأن، فلها شيء من التبعة والمثوبة المتعلقتين بما لأجله الشفاعة، وهو مقصد الشفيع والمشفوع له، فالشفيع ذو نصيب من الخير أو الشر المترتب على الشفاعة، يدل عليه قوله تعالى: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها) • والنصيب والكفل بمعنى واحد •

وفي ذكر هذه الحقيقة تذكرة للمؤمنين ، وتنبيه لهم أن يتيقظوا عند الشفاعة لما يشفعون له، فإن كانت في أمور حسنة يقرها الشرع فلا بأس بها، بل هي مستحبة لما فيها من عون ومساعدة للضعفاء والمحتاجين، والسعي في نفع الناس من قضاء ديون وتفريج هموم وكرب وتذليل عسير وتحصيل سبب رزق، ولما فيها من تحصيل الحق ودفع الباطل ورفع الظلم والضرر ، وسواء حصل ذلك بالقول أو بالفعل أو بالإرشاد ، فله من هذه الأعمال نصيب وحسنة (لأن الدال على الخير كفاعله) •

وإذا كانت في الأمور السيئة التي لا يقرها الشرع أو نهى عنها فهي محرمة ومنهي عنها، فعليهم أن يجتنبوها خصوصاً إن كان المشفوع لأجله مما فيه شر وفساد، كأن يترتب عليها ضياع للحقوق، أو العدالة بين مستحقيها، أو كأن يحصل بسببها ظلم وضرر واعتداء على حقوق الآخرين، أو يجلب لنفسه بسببها مصلحة أو منفعة مادية أو معنوية، وسواء حصل ذلك كله بالقول أو بالفعل أو بالإرشاد، فله من هذه الأعمال نصيب من الإثم، لأنه قد تعاون على الإثم والعدوان، وقد نهى الله عن ذلك بقوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) • ولأن قوله: (ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها) في معنى النهي عن الشفاعة السيئة • وقد وعد سبحانه بالثواب لمن شفع شفاعة حسنة، وتوعد بالعقاب لمن شفع شفاعة سيئة بقوله تعالى: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا)• أي المجازي على الأمرين •

أما الذي يقبل الشفاعة فعليه مسؤولية عظمى في قبولها أو رفضها، لأنه مؤتمن من قبل الدولة على مصالح الناس وحقوقهم، فليس له الحق قبول شفاعة من يشاء ومنع شفاعة من يشاء، بل عليه أن يعرض هذه الشفاعة على ميزان العدل وفق ما شرع الله، فإن كانت تفرج كربة وتحقق مصلحة ومنفعة ليس على أحد منها ضرر، وليست على حساب حقوق الآخرين، متفقة مع القوانين والأنظمة يجب عليه قبولها، وإن كانت الأخرى فلا؛ لأن الحقوق ليست ملكاً له يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، وإنما هي حقوق عامة للمواطنين يأخذها من يستحقها وفق الضوابط والأنظمة الصادرة من ولي الأمر، فإذاً هو أمين على تنفيذ الأنظمة وإعطاء الحقوق لأهلها وفق هذه الآلية، قال تعالى: (انا عرضنا الأمانة على السموات والارض والجبال فابين أن يحملنها وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا)•

نعم هي الأمانة بكل صورها، وثقلها، نَأَتْ عن حملها السماوات والأرض والجبال وحملها الإنسان، تكليفاً يحاسب عليه، إنه كان ظلوماً جهولاً ، ولا سبيل له لأدائها على أكمل وجه إلا بإخضاعها لميزان العدل وفاء والتزاماً لوجهه الكريم، وما أشق الأمانة على حاملها إذا ما كانت ثقلاً يضعف من عزيمته، ويوهن من إرادته• وخسر من لم يتمسك بقول الحق جل جلاله: (ان الله يامركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها)• فشأن الأمانة شأن عظيم، وهي أجل ما يضطلع به الإنسان في حياته، فبها تظهر ديانته ويتأكد إيمانه وتتجلى قوته وكفاءته، وإني لأسأل الله تعالى بعزته وجلاله أن يجعلنا وإياكم ممن قال عنهم في كتابه الكريم: (والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون)•
نعم، إن المسؤولية الملقاة على عاتق المسؤولين جميعاً تجاه أبناء أمتهم عهد وميثاق يحتم على كل منهم أياً كان موقعه، صغيراً كان أم كبيراً ، في نطاق مسؤوليته أداء أمانته الملقاة على عاتقه، فقد تعود البعض على مثل هذه الأمور التي قد تبدو لهم في ظاهرها يسيرة، لكنها في الحقيقة عظيمة، باطنها الخوف والخشية التي يستشعرها كل مسؤول في بلده تجاه مسؤوليته أمام الله -جل جلاله- ثم تجاه من ولاه هذه المسؤولية• فالمسؤولية ليست شرفاً يزهى به ، بل ثقل تتفطر له قلوب المخلصين إن هم تقاعسوا عن شيء منها، فهي الإخلاص لما هو مناط بهم، والمحافظة على كل ما ائتُمِنوا عليه، وهي النية الصادقة التي لا لبس معها، ففي الحديث الشريف: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)• وإلا كانت ندامة وحسرة على صاحبها كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة)• وفي لفظ عند النسائي وأحمد وابن حبان وغيرهم ندامة وحسرة •
وروي أن أبا ذر -رضي الله عنه- قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أمِّرني، فقال: (إنك ضعيف وأنها أمانة وأنها يوم القيامة خزي وندامة)• وفي لفظ: (الإمارة أمانة وهي يوم القيامة خزي وندامة إلا من أمر بحق وأدى بالحق عليه فيها) •

لذلك كله نوصي أنفسنا وإخواننا أن يضعوا تقوى الله نصب أعينهم، وأن يعطوا كل ذي حق حقه، والعمل على اجتناب كل ما من شأنه أن يتسبب في إضاعة الحقوق ، وأن يتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب • ولأن الظلم ظلمات يوم القيامة لقول رسوله الكريم: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)•
ففتح مثل هذا الباب من الشفاعات السيئة مدعاة لضياع الحقوق، وطريق للتذمر والتمرد وسبيل لانعدام الثقة، وثغرة من خلالها يختل الأمن، وبالتالي تكون أنت المسؤول عن إثارة مثل هذه الفتن والمحن التي لا تخدم ديناً ولا فرداً ولا مجتمعاً، ولهذا ننصح كل من جانب خطؤه صوابه، وقوله فعله، وظلمه عدله ، أن يتقي الله، في نفسه أولاً وفي مجتمعه ثانياً، وأن يكون محل الثقة التي في عنقه، لأنه مؤتمن موثوق به من قبل ولي أمره، فصيانة الأمانة وحفظها عبادة وامتثال لأمر الله، والانصراف عن أدائها تقصير وخيانة وتضييع لها واستهانة بحملها، وخاب وخسر من ضيع الأمانة وفرط فيها؛ فلا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له• ولا مكان لأمثال هؤلاء في المجتمع لأنهم يفسدون ولا يصلحون، ويهدمون ولا يبنون، ويفرقون ولا يجمعون، وشرهم أكثر من خيرهم• وقد وجهنا الشرع الحنيف في كيفية اختيار الرجل المناسب في المكان المناسب لتحمل المسؤولية القيادية أو الإدارية أو غيرها بقوله سبحانه: إنَّ خّيًرّ مّنٌ ًتّأًجّرًتّ پًقّوٌيٍَ الأّمٌينٍ • في قصة ابنة شعيب عليه السلام حين قالت لأبيها عن مؤهلات موسى، فعول الشرع على أن الكفاءة والتخصص هما وحدهما اللذان يؤهلان أصحابهما لإدارة الأعمال المناسبة لهم، فقال على لسان يوسف عليه السلام: (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) •

وقد وجه سبحانه نبيه داود عليه السلام في قوله: (يا داوود انا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق)• وقال تعالى: (كونوا قوامين بالقسط) • وقد قال عليه السلام: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)• (إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع)• وبهذا نرى كيف كان للإسلام فضل السبق في إرساء قواعد الحق، وتطبيق المبادئ الإنسانية الاجتماعية السامية التي لا يفرق فيها بين إنسان وآخر• ولا تمييز ولا محاباة، ولا فضل ولا سبق إلا بالعمل الصالح، قال الله تعالى: (ان اكرمكم عند الله اتقاكم) • هذا وأسأل الله -جل شأنه- أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يلهمنا رشدنا وصوابنا ويدلنا على ما يحب ويرضى، إنه ولي ذلك والقادر عليه•
الخاتمة الأصل في الشفاعة هو طلب المثوبة من الله تلقاء هذه الشفاعة لقوله تعالى: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منه)• ففي هذا حث على الشفاعة الحسنة التي ينفع الله بها البلاد والعباد ليُنال الأجر والثواب ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (اشفعوا تؤجروا)• إلا أنها في هذا العصر الحديث انحرفت عن هدفها الأساس، فأصبحت الشفاعة شفاعة مصالح، ومنافع، حتى كاد الإنسان لا يجد من يشفع له إذا لم يكن عند المشفوع له مصلحة أو منفعة ، وبهذا عم الفساد جميع البلاد إلا من رحم ربي وفسدت ذمم كثيرٍ من الناس، وبهذا يكره الناس بعضهم بعضاً ويشعرون بالظلم ، والغبن، فتنعدم الثقة بينهم ، فلا يثق بعضهم ببعض ، فتضيع الحقوق ، فلا يستطيع كثير من الناس الحصول على حقه بالطرائق المشروعة، الأمر الذي معه يلجأ الناس إلى التوسط والشفاعة الحسنة لدى من يستطيع إعطاءه حقه، وهذا واجب كل مؤمن مخلص أن ينفع أخاه بما يستطيع دون منٍّ أو أذى أو مقابل ، فإذا لم نفعل، فقد أثمنا بما نحن مأمورون به، وساعدنا على الإثم والباطل، لأن من لا يجد شفيعاً يشفع له للحصول على حقه، أو رفع الضرر عنه فسيلجأ إلى الرشوة، وقد لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما •
فالشفاعة على مصلحة أو منفعة سواء كانت للشافع أم للمشفع تعد من باب الرشوة، لأن الشَّفَاعَة الحَسَنَة من المصَالحِ العامَّةِ فَيَحْرُمُ أخذُ شيء في مُقَابِلِهَا، فإن تركت الشفاعة الحسنة ، أو أخذ عليها أجرة أو منفعة أو مصلحة أو دفع ضرر عنه، أو أخذت الرشوة للقيام بالشفاعة أو بعمل شيء نافع أو دفع ضر نازل، فقد حدنا عن المنهج الذي شرعه الله لنا، والذي يعد جزءاً من ديننا الحنيف الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحث على مساعدة المحتاج وإغاثة الملهوف والعمل على نفع الآخرين دون منٍّ أو أذى فكيف بالذي يطلب أجراً ؟!! وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل)•
وقال: (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة)• و(الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، و(خير الناس أنفعهم للناس)•

وعليه يتضح لنا ما يلي :

– يجب على جميع من آمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً أن يعطي كل ذي حق حقه •

– يجب على جميع المسؤولين أيّاً كانت مستوياتهم ومواقعهم ومسئولياتهم أن يتقوا الله فيما ولاهم الله إياه، وأن يحققوا العدالة بين الناس، وأن يعطوا الحقوق لأهلها، وأن يحفظوا الأمانة التي ائتمنوا عليها من ولاة الأمر، وهم حجر الزاوية في الأمر كله، لأنهم إذ صلحوا صلح المجتمع كله بإذن الله، وإذا فسدوا فسد المجتمع إلا من رحم ربي، وبصلاحهم لا مكان لوجود الرشوة ولا للوساطة المذمومة والشفاعة السيئة• قال تعالى: (فاحكم بين الناس بالحق)الآية•

– الشفاعة الحسنة (الواسطة المحمودة) مستحبة بل أحياناً تكون واجبة، لأنك بها تعين أخاك المسلم على قضاء حوائجه ومصالحه والوصول إلى حقه ، ودفع الظلم عنه مّن يّشًفّعً شّفّاعّةْ حّسّنّةْ يّكٍن لَّهٍ نّصٌيبِ مٌَنًهّا • وقال عليه السلام: (اشفعوا تؤجروا) •

– الشفاعة السيئة (الواسطة المذمومة) محرمة لأنها تعين الإنسان على الباطل والإثم والعدوان ، وأكل حقوق الآخرين، وتضييع العدالة ، وتفشي الظلم والجور والفساد قال تعالى: (ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها) •

– الشفاعة على مصلحة أو منفعة سواء كانت للشافع أم للمشفع تعد من باب الرشوة، لأن الشَّفاعَة الحسَنَة منْ المَصالِحِ العَامَّةِ فَيَحْرُم أخذُ شيء في مُقَابِلها

– أخذ الهدية على الشفاعة محرم •

– ترك الشفاعة الحسنة، أو أخذ الأجرة عليها أو تحقيق منفعة بها أو مصلحة أو دفع ضرر بسببها، أو أخذ الرشوة للقيام بالشفاعة أو بعمل شيء نافع أو دفع ضر نازل يعد بعداً عن المنهج الذي شرعه الله لنا ، فقد روى أبو داود في سننه عن أبي أمامة -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من شفع لأحد شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)، فما بالك بمن أخذ مالاً من أخيه المسلم على شيء هو مأمور بأن ينفعه به من غير عوض؟!!! •

– الوقاية خير من العلاج ، لقد حرص الإسلام على استتباب الأمن، ونشر أسباب الوقاية من الإجرام، وذلك بالأمر (بالعمل)، فلا يبقى هناك مجال للتفكير في الإجرام الذي ينتج من البطالة -كما كفل الإسلام حقوق الناس جميعاً على مختلف طبقاتهم ، فقرر العدل والتواصي بالحق وقرر مساعدة المحتاجين الذين لا يجدون عملاً ولا يستطيعون العمل، فأشرقت من تعاليمه أسمى مبادئ الإنسانية الرحيمة في التضامن والتكافل الاجتماعي، إخماداً لثورة الغضب والانتقام التي يكون مبعثها الشعور بالظلم، فإذا تمت كفالة حقوق الإنسان ثم اعتدى ومد يده، كان لابد من فحص حالته حتى لا تكون هناك شبهة، فإذا ما ثبتت إدانته بعد ذلك فهذا دلالة على أنه قد التاثت فطرته، وعميت أو تعامت بصيرته، فلابد إذن من إيقاع العقوبة به، وللوقاية والاحتراز من هذه الأمراض الاجتماعية أوصي بما يلي :

1- تفعيل الوعي الديني والثقافي بين أبناء المجتمع عموماً والموظفين خصوصاً •

2- التخلص من الموظفين الفاسدين الذين لا يرجى صلاحهم ولا إصلاحهم بآلية مناسبة •

3- إيجاد صف ثان من القياديين في مختلف المستويات •

4- تدوير الموظفين بين الإدارات المختلفة خاصة في الوظائف القيادية والمالية والمشتريات، والوظائف ذات الصلة بالمشتريات وعقود التشغيل •

5- ترشيح المؤهلين المشهود لهم بالأمانة والنزاهة للوظائف القيادية•

6- تنمية قدرات الموظفين •

7- وضع لجنة مستقلة في كل دائرة يتم اختيارها من ذوي الأمانة والكفاءة• تهتم بمراقبة أداء الموظفين اليومي على مختلف مناصبهم •

تحميل البحث: 2010-274.zip