15 جمادي أول, 1447

من رصيف اللحوح في صنعاء إلى أشهر مستشفيات لندن

قصة واقعية كتبها الأستاذ فاروق الظرافي – تستحق أن تُروى.

قبل ما يقارب 38 عامًا، كنت أُدرّس مادة اللغة الإنجليزية في إحدى مدارس صنعاء، وهناك لفت انتباهي طالب ذكي جدًا، لكن يغيب عن المدرسة كثيرًا. سألت زملاءه عن سبب غيابه، فأخبرني أحدهم – وهو جاره – أن والدة الطالب تبيع “اللحوح” على الرصيف، وأن زملاءه يعايرونه بذلك، وأحيانًا لا يملك حتى أجرة المواصلات.

طلبت من جاره أن يدلني على مكان والدته. تقربت من الطالب حتى شعر بالأمان، ثم اصطحبته بسيارتي القديمة التي كنت قد اشتريتها بعشرة آلاف ريال، وكنت حينها أعمل أيضًا مترجمًا بمجلس الشعب التأسيسي (مجلس النواب حاليًا) وأجمع من عملي ما يكفيني لمساعدة من حولي.

ذهبنا معًا ووقفنا قرب والدته في الشارع، تظاهرت أني لا أعرفها، ونزلت واشتريت لحوحًا منها وتجاذبت معها أطراف الحديث. سألتها عن زوجها، فقالت إنه توفي. وعن أبنائها، قالت: “ثنتين بنات وولد يدرس أولى ثانوي، لكنه يتغيب بسبب معايرة زملائه لي”.

قلت لها: “أنا أستاذه وهو معي في السيارة، عازمه اليوم على الغداء”. وطلبت منها أن تتصرف كأنها لا تعرفه ولا تعلم بوجوده.

ركبت السيارة مجددًا، والولد يراقبنا من الداخل، فسألني: “تعرف هذه المرأة؟” قلت له: “لا، لكنها ذكّرتني بأمي، الله يرحمها… أمي كانت تبيع خبز وملوّج عشان تصرف علينا، وطلعتنا مدرسين ومهندسين… هؤلاء الأمهات العظيمات ما في مثلهم”.

بدأ وجهه يتغير، ثم قال لي: “هذه أمي”.
قلت له: “مش معقول! ليش ما نزلت تسلّم عليها؟”
قال: “أستحي… الناس يعايروني”.
قلت له: “تستحي؟ أمك ما تشحت، ما ترقص، أمك تشتغل بشرف”.

عاد ونزل من السيارة وركض إليها، ضمّها وبكى، وقال لها: “هذا أستاذي، عازمنا اليوم عنده غداء”. وفعلاً تعشينا معًا، وكان يومًا لا يُنسى.

في اليوم التالي، دخلت الفصل وبدأت أحكي للطلاب قصة عن “أمي التي كانت تبيع خبزًا لتعيلنا”، فرفع الطالب يده وقال: “أنا مثل أستاذي، أمي تبيع لحوح عشان تصرف علينا”.

قلت له: “بعد الحصة نروح سوا أنا وأنت وزملاؤك نحب رأسها”، وفعلاً ذهبنا، وقمنا بذلك أكثر من مرة. وفي أحد الأيام، قرر الطلاب شراء هدية لها، واستأجرنا 3 باصات وذهبنا نُسلم عليها في الشارع أمام بسطتها.

مرت السنوات، وواصلت عملي بالتدريس، ثم نسيت القصة… لكن بعد 30 عامًا، شاءت الأقدار أن أرافق أحد رجال الأعمال في رحلة علاج إلى لندن. وضمن الفحوصات، نصحنا أحد اليمنيين هناك بالتسجيل لدى طبيب يمني يُقال إنه ممتاز ويعمل في مستشفى لندن الجامعي – أحد أشهر مستشفيات المملكة المتحدة.

سجلنا… وانتظرنا دورنا… حتى دخلنا عليه، وفوجئت به يقوم من مكتبه، يحتضنني، ويقبل رأسي، ويقول:

“أنت الأستاذ فاروق! ما تغيّرتش! أنت من غيّرت حياتي!”

وإذا بي أستعيد كل الذكريات… هذا الطالب الذي كان يخجل من أمه، أصبح اليوم دكتورًا استشاريًا في القلب في أشهر مستشفيات لندن، يحمل الجنسية البريطانية، ومتزوج، ووالدته تعيش معه بعز وكرامة.

ورجل الأعمال الذي كنت أرافقه، ما زال حتى اليوم يُطنّن بالقصة أينما جلس.

العبرة:

أحيانًا المجتمع يحبطك بسخافة عاداته وتقاليده العقيمة، لكن إنسان واحد يقدّر ظروفك، يرفعك من قاع الرصيف إلى قمة النجاح.

تحية لكل أم تصنع من اللحوح والمخبازة قصة فخر…
وتحية لكل أستاذ كان نورًا في حياة طلابه.
اللهم اجعلنا ممن يتركون اثرا طيبا في كل مكان نمر به وارحم من علمونا وربونا على حب الخير لكل الناس اللهم آمين
أسعدكم المولى وجعلكم مباركين واجعل من يرونكم يدعون لمن ربوكم
🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹