8 جمادي أولI, 1446

 

 

 نحن و الصبر

الدكتور عثمان قدري مكانسي


ما من كلمة ترددت في كتاب الله عز وجل بالكثرة التي ترددت فيها كلمة الصبر وأصبح من البديهي عند المسلمين بل وعند الناس جميعاً أن الصبر مقياس كل خير في صفات الإنسان. والنصوص في كتاب الله وسنة رسوله على فضيلة الصبر تجعل من هذا الصبر أساساً للنجاح يوم القيامة كما قال عليه الصلاة والسلام (الصبر معوّل المؤمن) إذا ضعف عملي وكثرت خطاياي ثم وهنت قواي في طاعة الله عز وجل ثم ضاقت بي السبل يوم القيامة فإن الصبر هو المعوّل عليه. فإذا جاء في صحيفتي أو صحيفتك موقف واحد فيه صبر على بلاء واحتسبناه لله ولم نشكُه لأحد من عوادنا ولم ندعُ غير الله في كشفه فإن هذا الموقف وحده كافٍ لأن يرفع درجاتنا حتى لو كبت بنا كل أعمالنا – معشر المسلمين – هكذا هو الصبر (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ 46 الأنفال) فالصبر شطر الإيمان، فكل هذا الدين شطر والصبر وحده شطر. وجاء في الحديث (الصبر أول العبادة). ونجد مع الصبر كلمات تناسبه هي الصبر والحلم والصوم والعفة والقناعة وكظم الغيظ والعفو، وهي تحتاج منا للقوة والعزيمة .

الصبر: فإما أن تكون صابراً أو جزوعاً، وهو احتمال موقف مؤلم وشاق لا تستطيع تلافيه. فتلجأ إلى الله تعالى ، فعليه التكلان ، وإليه وحده الملاذ والمأوى ” واصبر وما صبرك إلا بالله ” ومن لم يصبر كان جزوعاً .

الحلم : وهي صفة الصابر المتمكن الذي يغفر لمن أساء إليه . والفرق بين كونك حليماً وكونك صابراً أن تكون حليماً باختيارك، يمكنك أن تتلافى ما قد يجري عليك ، قال الله تعالى مع الصبر :(وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ 186 آل عمران) وقال مع الحلم (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ 43 الشورى) فزادت اللام مع الحلم ويقول ابن القيم في مدارج السالكين إنه سأل شيخ الإسلام ابن تيمية عن صبر سيدنا يوسف عليه السلام في الجب فقال كان صبراً اضطرارياً ، ولكن الأعظم من ذلك صبره في السجن وصبره على مراودة التي هو في بيتها ، فدخل السجن باختياره.

وعكس الحِلم السفه ، وقد مدح الله تعالى سيدنا إبراهيم بالحلم ، فقال : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ 75 هود) ومن حلم رب العالمين أنه لم يعجل العقوبة وهو القادر على تنفيذها في الحال والتو : (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى 45 فاطر) .فكان الحلم من أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى

الصوم: احتمال الامتناع عن مطلوب مشروع لإرضاء الله تعالى. وهو نوع من أنواع الصبر فتصبر على عدم الأكل والشرب .

العِفّة: وعكسها الطمع (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ 33 النور) فأنت تعف عما في يد الآخرين مع إمكان أن تحصل عليه. وكل شهوة تستطيع الحصول عليها ولكنك تتركها لمعانٍ سامية تسمى عفة. وفي الجاهلية سميَ والد الصحابي الجليل عثمان بالعفيف أو العفـّان لأنه حرّم الخمرة والنساء على نفسه رغم شيوعها في الجاهلية من باب عفته ومروءته وشعوره بالكرامة وحسن الخلق .ومن هنا نقول : إن العفة ترك ما تستطيع نيله بطريق غير محمود، مع أنه ليس لك

القناعة: صفة رائعة يمتاز صاحبها بالرضا بالقليل مع قدرته على نيل الكثير وهذا من الزهد المحمود . والقناعة عكسها الشره ومن صفات الإنسان الجشع ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى الثالث). ومن هنا نقول : إن القناعة ترك ما تستطيع نيله بطريق الحلال ترفعاً وزهداً.

كظم الغيظ: والكظم عكسه الإنفاذ، فإن اعتُدي على أحد وكان يستطيع الردّ على المعتدي بقوة ، فكظم غيظه التزاماً بأمره تعالى (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 134 آل عمران) نال الخير الكثير ، وفاز بالجنة .

وكظم الغيظ أنك لا تتعجل الانتقام – وهو من حقك – ولا تهيج برغم ما في داخلك من غليان ومن ثورة الغضب ، وانظروا نتيجة الحلم وكظم الغيظ (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ 35 فصلت) إنه اكتساب الأصدقاء ، وما يفعل هذا إلا عظماء الرجال، ويمدحهم الله تعالى في الحديث القدسي (من كظم غيظه من أجلي وهو قادر على إنفاذه كان حقاً علي أن أملأ جوفه رضىً يوم القيامة) وهؤلاء الرجال قليلون .

العفو: هو الخطوة الثانية بعد الكظم ، فلا محاسبة لأخذ الحق بل سماح وعفو . ماذا بعد كظم الغيظ ؟ ” والكاظمين الغيظ ، والعافين عن الناس ، والله يحب المحسنين ” (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم).

ولا ننس قصة المملوك الذي صب خطأ على سيده ما في يده فأثار حفيظته وكاد يبطش به لولا أن تدارك العبد الأمر فأسرع يقول : ” والكاظمين الغيظ ” فقال : كظمت غيظي ، فقال العبد ” والعافين عن الناس ” قال عفوت عنك ، فقال :” والله يحب المحسنين ” فقال اذهب ، أنت حر لوجه الله .

ولا يكون الوجيه وجيهاً في الدنيا إلا إذا كان صابراً حليماً مبتسماً لا يعجل العقوبة ، عفيفاً وقنوعاً فإذا اجتمعت هذه الصفات في عبد كان في قمة الخلق. يقول النبي صلى الله عليه وسلم (أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم أخلاقا) :إن الرجل يكتسب بحسن خلقه يوم القيامة أكثر مما يكتسب الصائم الذي لا يُفطر والقائم الذي لا يَفتر والمجاهد الذي لا.يضعُف. والميزان يوم القيامة ليس بكثرة صلاة ولا بكثرة صيام وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام يمدح الصديق أبا بكر (ما سبقكم أبو بكر بكثرة صيام ولا كثرة صلاة ولكن بشيءٍ وقر في قلبه) فقد جمع من صفات الخير الشيء الكثير ، فكان عند الله تعالى كريماً .

بعض ما قيل عن الصبر
يقول الزبيدي رحمه الله صاحب كتاب تاج العروس عن الصبر أنه حبس النفس عن الجزع وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عن التشويش، فلا تجزع عندما تصيبك مصيبة والجزع هو شدة الانهيار الذي يؤدي بصاحبه إلى تصرفات غير محمودة كالصراخ واللطم والعويل ،وشق الثياب والتلفظ بالكلمات النابية .
والصبر الجميل ليس فيه شكوى .
والهجر الجميل لا صرام فيه ،
والصفح الجميل لا عتاب فيه ولا عقاب .
ذو النون يقول : الصبر هو السكون عند تجرّع البلية.
ويقول أحد الصالحين: هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب.
ومعظم الناس في هذا الزمان من أهل الصبر فقد صب عليهم المحن الكثيرة سواء أفراداً وجماعات فقد جمع عليهم المحن الاقتصادية والوظيفية والصحية وأمراض العصر الرهيبة. فكثرت البلايا.. وكأن الله عز وجل يريد أن ينقي هذه الأمة من خطاياها لأن هذه البلايا أعجوبة العجائب ما تذر العبد وعليه خطيئة فيأتي يوم القيامة دون ذنب لشدة الكرب الذي ناله في دنياه ، وأنت تعلم أن اللله تعالى لا يجمع على المؤمن كرب الدنيا والآخرة ، وهو الرحيم الودود سبحانه ” إن الله بالناس لرؤوف رحيم ”
ومن رأفته –سبحانه – ورحمته بالناس أن بلاء بسيطاً يسلطه الله تعالى على عبده يكفر ذنوب العبد. وكما جاء في الأثر “إن ليلة من الصداع والمليلة – الحمى الشديدة التي تصل إلى العظم – كفيلة بأن يغفر الله بها ذنوب العبد ” ، فأكرِمْ بالله تعالى . وقال صلى الله عليه وسلم ” الحمى من فيح جهنم وذاك نصيب المؤمن من النار”
وقال صلى الله عليه وسلم ” ما رزق الله عبداً خيراً له ولا أوسع من الصبر” .
وعن التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أُريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت: بلى قال:هذه المرأة أتت النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: يا رسول الله إني أصرع فادعُ الله لي أن يشفيني قال: إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك قالت: أصبر
عن عطاء بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “إذا مرض العبد بعث الله ملكين فقال: انظرا عبدي ما يقول لعواده فإن هو إذا جاءوه حمد الله وأثنى عليه رفع ذلك إلى الله وهو أعلم به فيقول الرب عز وجل: لِعبدي عليّ إن توفيته أن أدخله الجنة ، وإن أنا شفيته أن أبدله لحماً خيراً من لحمه ودماً خيراً من دمه وأن أكفِّر عنه سيئاته ” .
وفي الحديث ” من صُدِع رأسه في سبيل الله فاحتسب غفر له ما كان قبل ذلك من ذنب” …وعن فاطمة الخزاعية قالت عاد النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من الأنصار وهي وجعة فقال لها: كيف تجدينك؟ قالت:بخير إلا أن أم ملدم- تكنى بها الحمى- قد برحت بي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اصبري فإنها تذهب خبث ابن آدم كما يذهب الكير خبث الحديد. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ” من وُعِك ليلة فصبر ورضي بها من الله عز وجل خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه” . ويقول الله عز وجل مادحاً الصابرين “وبشر الصابرين ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ 157 البقرة” وفي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى ” إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة)
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم ” ما ابتلي عبد بعد ذهاب دينه بأشد من ذهاب بصره وما ابتلي ببصره فصبر حتى يلقى اللهَ لقيَ الله تبارك وتعالى ولا حساب عليه”
ويقول صلى الله عليه وسلم : (إن العبد إذا سبقت له المنزلة عند الله فلم يبلغها بعمل ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده ثم صبر على ذلك حتى يبلّغه المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل)
وقد هز الرسول صلى الله عليه وسلم شجرة حتى تساقط ورقها ما شاء الله أن يتساقط ثم قال: ” لـَلمصيبات والأوجاع أسرع في ذنوب ابن آدم مني في هذه الشجرة”. فما أن تصاب بمصيبة أو وجع حتى تتناثر ذنوبك كما تتناثر أوراق هذه الشجرة اليابسة. وهذه الأمة صابرة نرجو لها العفو عن الذنب والمغفرة والجنة .
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ” الصبر، صبر على البلاء، وصبر على الطاعات ، وصبر عن المعاصي ” .
والمسلم يصبر على الهموم التي ابتلي بها من فقر ومرض وغربة وضيق ، ويكل أمره إلى الله تعالى ، فله الجنة وهذا صبر على البلاء
ومن أمثلة الصبر على الطاعات: قيام الليل ،فمن كان لديه فراش دافئ وزوجة حسناء فتركهما ليقوم ويصلي لله يقول تعالى: (انظروا لعبدي قام يتملقني ولو شاء لرقد) .
وهكذا.الأمهات هن أهل للجنة ، فالحمل والولادة والإرضاع والحيض والنفاس لا يبقي على المرأة أي ذنب وأجر الأم يوم القيامة عظيم فهي تصبر على الزوج وإرضائه وعلى الأولاد وتربيتهم،

وقد قال صلى الله عليه وسلم ” كفى بالمرء إثماً أن يُضيّع من يعول ” فما من ذنب أعظم من أن تضيع أمر طفل أو من تعول وإن كان التضييع معنوياً أو تربوياً أو تعليمياً. .. يقول صلى الله عليه وسلم ” إن من الذنوب ذنوباً لا يغفرها إلا الهمّ للعيال ” بعض ذنوب الرجال كبائر يغفرها الله تعالى باهتمام الرجل بأطفاله.

والصبر عن المعاصي بأن يجاهد الإنسان نفسه لكي لا يقع في المعاصي والإنسان في هذا الزمن الكئيب تحيط به إغراءات الدنيا ، والحياة كلها في هذا الزمن معاص وضغوط…. اقتصاد بعيد عن الحلال وفجور منتشر في كل شارع وحي ولقاءات تخوض في أعراض المسلمين ، وهؤلاء الصابرون عن المعاصي قليلون لأن أغلب الناس ينساقون وراء المعاصي ويقعون فيها ، لذلك قيل : إن الصبر عن المعاصي من أعظم أنواع الصبر.