1 جمادي أول, 1447

صِفاتُ المتَّقِينَ

﴿الخُطْبَةُ الأُوْلَى﴾

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحابِهِ وَمَنْ سارَ عَلَى طَرِيقِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

عِبادَ اللهِ، اِتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلامِ بِالْعُروَةِ الْوُثْقَى، قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[الحشر:18] أَمَّا بَعْدُ:

إِخْوانِي الْكِرامُ، مَا أَجْمَلَ اللَّحَظاتِ حِينَ تُقْضَى بِتَدَبُّرِ كَلامِ رَبِّ الْبَرِيَّاتِ! قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ [النساء: 82]، وَقالَ سُبْحانَهُ: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: 21]. وَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِتَرْتِيلِهِ؛ فَقالَ: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 4]، وَبَيَّنَ سُبْحانَهُ أَنَّهُ يَسَّرَ الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ؛ فَقالَ: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾[القمر: 17]. وَلَمْ تُطْلَقِ الْخَيْرِيَّةُ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا لِأَهْلِ الْقُرْآنِ، قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» [رواه البخاري، رقم 5027].

آيَاتٌ مِنْ كِتابِ اللهِ هِيَ مَنْهَجُ حَياةٍ لِمَنْ أَرادَ النَّجاةَ، يَقُولُ رَبُّنا جَلَّ وَعَلا: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۝ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۝ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران: 133–136]

أَيُّها الْأَحِبَّةُ، جاءَ الْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْآياتِ بِالمسارَعَةِ وَالمسابَقَةِ وَالمنافَسَةِ فِي طاعَةِ اللهِ: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ﴾، وَقالَ سُبْحانَهُ: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه: 84]، وَقالَ: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: 26]، وَقالَ: ﴿الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ [المؤمنون: 61]. فَالمؤْمِنُ سَبَّاقٌ إِلَى الطَّاعَةِ، مُبادِرٌ إِلَى مَرْضاةِ اللهِ، يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ يَحْتاجُ إِلَى مُجاهَدَةٍ وَصَبْرٍ، قالَ تَعالَى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف: 28].

وَالتَّقْوَى -عِبادَ اللهِ- أَنْ يَراكَ اللهُ حَيْثُ أَمَرَكَ، وَأَلَّا يَفْتَقِدَكَ حَيْثُ نَهاكَ. قالَ ابْنُ الْوَرْدِيِّ فِي لامِيَّتِهِ:

وَاتَّقِ اللهَ فَتَقْوَى اللهِ مَا

لَيـْسَ مَـنْ يَقْطَعُ طُــرُقًا بَطـَلًا جَاوَرَتْ قَلْبَ امْرِئٍ إِلَّا وَصَلْ

إِنَّمـــــــا مَـــــــنْ يَتَّقِــــــي اللهَ الْبَطَـــــــلْ

تَكَرَّرَ فِي كِتابِ اللهِ الْجَمْعُ بَيْنَ المسارَعَةِ وَالمغْفِرَةِ، فَمَنْ سارَعَ إِلَى الطَّاعاتِ نالَ مَغْفِرَةَ اللهِ، وَإِذَا غَفَرَ اللهُ لَهُ هَنِيئًا لَهُ الطَّهارَةُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ أَنَّ أَسْبابَ المغْفِرَةِ مَيْسُورَةٌ لِلْجَمِيعِ، قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قالَ: سُبْحانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ مائَةَ مَرَّةً، غُفِرَتْ خَطاياهُ، وَإِنْ كانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ»[متفق عليه، البخاري 6405، مسلم 2691]. قالَ تَعالَى: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾، قالَ ابْنُ عَباسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: “كَسَبْعِ سَمَواتٍ وَسَبْعِ أَرَضِينَ لَوْ وُصِلَ بَعْضُها بِبَعْضٍ”، هَذا الْعَرْضُ، أَمَّا الطُّولُ لا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، قالَ تَعالَى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ اُبْتُدِئَ بِصِفَةِ التَّقْوَى لِأَنَّها تَشْمَلُ جَمِيعَ الْأَوْصَافِ الشَّرِيفَةِ، وخَصَّ اللهُ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمْ، وَأَنَّهُمُ الْأَصْلُ، وَغَيْرُهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ صِفاتِهُمْ؛ فَلْيَتَأَمَّلْ كُلُّ واحِدٍ مِنَّا نَفْسَهُ: هَلْ تَحَقَّقَتْ فِيهِ هَذِهِ الصِّفاتُ؟ إِنَّما الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ.

الصِّفَةُ الْأُولَى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾، قالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ: “أَيْ: فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ”. [تفسير ابن كثير 2/95]، يُنْفِقُ فِي حالِ الْغِنَى، وَفِي حالِ الْفَقْرِ، لا يَخْشَى الْفَقْرَ؛ لِأَنَّ قَلْبَهُ مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللهِ، قالَ الْحَسَنُ الْبِصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ: “أَنْفِقُوا مِنْ أَمْوالِكُمْ طَيِّبَةً بِها نُفُوسِكُمْ، فَإِنَّ اللهَ خَلَفٌ لِمَنْ أَنْفَقَ، وَآخِذٌ لِمَنْ أَمْسَكَ” [الزهد للإمام أحمد، رقم 585]، قالَ صلى الله عليه وسلم: «ما نَقَصَ مالٌ مِنْ صَدَقَةٍ» [رواه مسلم، رقم 2588]. وَقالَ صلى الله عليه وسلم لِبِلالٍ رضي الله عنه: «أَنْفِقْ يا بِلالُ وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلالًا» [رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 1507]. وَقالَ صلى الله عليه وسلم لِأَسْماءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْها: «أَنْفِقِي وَلا تُوْعِيْ فَيُوْعِيَ اللهُ عَلَيْكِ» [متفق عليه، البخاري 2590، مسلم 1029]. فَالشَّيْطانُ يَعِدُ الْإِنْسانَ الْفَقْرَ: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ﴾ [البقرة: 268]، لَكِنَّ المؤْمِنَ يُنْفِقُ طَيِّبَةً بِها نَفْسُهُ، مُخْلِصًا للهِ، قَلِيلَةً كانَتِ الصَّدَقَةُ أَوْ كَثِيرَةً، فَقَدْ تَصَدَّقَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْها بِحَبَّةِ عِنَبٍ، قالَ صلى الله عليه وسلم: «سَبَقَ دِرْهَمٌ مائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ» [أخرجه النسائي، وحسنه الألباني]، وَمِنْ صِفاتِ المتَّقِينَ: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، قالَ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّما الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» [متفق عليه]. قالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ: “كَظْمُ الْغَيْظِ هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَنِ الِانْتِقامِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ خِصالِ الْإِيمانِ” [جامع العلوم والحكم ص 313]، فَالْإِنْسانُ قَدْ يَغْضَبُ فِي بَيْتِهِ أَوْ عَمَلِهِ، لَكِنَّ انْكِسَارَ قُوَّةِ الْغَضَبِ، وَضَبَطَ الِانْفِعالاتِ، وكَظْمَ الغَيْظِ دَلَالَةُ كَمَالِ الْعَقْلِ، وَيُوجِبُ الْحِفْظَ مِنَ الشَّيْطانِ، وَاسْتِحْقاقَ رِضَى الرَّحْمَنِ عزَّ وجلَّ؛ وَقَدْ دَلَّنا نَبِيُّنا عَلَى طُرُقِ ذَلِكَ؛ قالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قالَها لَذَهَبَ عَنْهُ ما يَجِدُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» [متفق عليه، البخاري 3282، مسلم 2610]. وَقالَ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا غَضِبَ أَحَدَكُمُ وَهُوَ قائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ» [رواه أبو داود، رقم 4782، وصححه الألباني]. وَقالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطانِ، وَإِنَّ الشَّيْطانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّما تُطْفَأُ النَّارُ بِالماءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ» [رواه أبو داود:4784، وحسنه الألباني]. ثُمَّ قالَ اللهُ: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾، قالَ الْحَسَنُ الْبِصْرِيُّ: “الْعَفْوُ أَنْ تَمْحُوَ الْأَذَى مِنْ قَلْبِكَ؛ فَلَا تَذْكُرُهُ، وَلا تُؤَاخِذْ بِهِ”[الزهد لابن المبارك ص 189]، فَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَعَفَا، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْحِلْمِ وَالْعَفْوِ، ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، الْإِحْسانُ أَعْلَى مِنَ الْحِلْمِ وَالْعَفْوِ، وَيَشْمَلُ الْإِحْسانَ فِي عِبادَةِ اللهِ، وَالْإِحْسانَ إِلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ أَنْ تُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَساءَ إِلَيْكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ. [تفسير السعدي ص 146]، جاءَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ زَينَ الْعابِدِينَ رحمه الله كانَ لَهُ جارِيَةٌ تَسْكُبُ عَلَيْهِ ماءً لِيَتَوَضَّأَ، فَسَقَطَ الْإِناءُ مِنْ يَدِها، فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، فَغَضِبَ، فَقالَتْ: يا سَيِّدِي، إِنَّ اللهَ يَقُولُ: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، قالَ: كَظَمْتُ غَيْظِي. قالَتْ: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾، قالَ: عَفَوْتُ عَنْكِ. قالَتْ: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، قالَ: اذْهَبِي فَأَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللهِ. وَرَوَى أَبو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ رضي الله عنه قالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلامًا لِي بِالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوتًا مِنْ خَلْفِي يَقُولُ: «اِعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذا الْغُلامِ»، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يا رَسُولُ اللهِ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقالَ: «لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ» [رواه مسلم، رقم 1659]. وَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كَمْ نَعْفُو عَنِ الْخادِمِ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: «اُعْفُ عَنْهُ سَبْعِينَ مَرَّةً فِي الْيَوْمِ»[رواه أبو داود، رقم 5164، وصححه الألباني]. قالَ زَيْنُ الْعابِدِينَ رَحِمَهُ اللهُ:

لا تَنْهَرَنَّ غَرِيبًا حَالَ غُرْبَتِهِ *** فَالدَّهْرُ يَنْهَرُهُ بِالذُّلِّ وَالْمِحَنِ

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنا وَإِيَّاكُمْ صِفاتِ المتَّقِينَ، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ.

 

أَقُولُ قَوْلِيْ هَذَا وَاسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الـمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

﴿الخُطْبَةُ الثانية﴾

الْحَمْدُ للهِ وَكَفَى، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى النَّبِيِّ المصْطَفَى، مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحابِهِ وَمَنْ سارَ عَلَى نَهْجِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.. أَمَّا بَعْدُ:

عِبادَ اللهِ، قالَ اللهُ تَعالَى فِي الصِّفَةِ الْخامِسَةِ مِنْ صِفاتِ المتَّقِينَ، دَلالَةً عَلَى سَعَةِ رَحْمَتِهِ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135]، قالَ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأنَّهُ قاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخافُ أنْ يَقَعَ عليه، وإنَّ الفاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبابٍ مَرَّ علَى أنْفِهِ فقالَ به هَكَذا، قالَ أبو شِهابٍ: بيَدِهِ فَوْقَ أنْفِهِ» [حديث ابن مسعود، رواه البخاري رقم 6308]. وَجاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي ذُنُوبًا لَوْ وُزِّعَتْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَكَفَتْهُمْ. فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَتَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟» قالَ: نَعَمْ. قالَ: «وَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟» قالَ: نَعَمْ. قالَ: «فَإِنَّ اللهَ يُبَدِّلُ سَيِّئاتِكَ حَسَناتٍ». قالَ: يا رَسُولَ اللهِ وَغَدَراتِي وَفَجَرَاتِي؟ قالَ: «وَغَدَراتِكَ وَفَجَراتِكَ».[رواه أحمد، رقم 22989، وصححه الألباني]. وَقالَ تَعالَى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ۝ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ۝ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 68–70]

فَيَا مَنْ أَذْنَبَ، لا تَيْأَسْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ بابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ ما لَمْ تُغَرْغِرِ الرُّوحُ أَوْ تَطْلَعُ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها.

قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ» [رواه ابن ماجه، رقم 4250، وحسنه الألباني]. ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ جَزاءَ هَؤُلاءِ المتَّقِينَ؛ فَقالَ: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران: 136]

هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ عز وجل: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]

‎ اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عن الخلفاء الراشدين، وعن الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ ومن تبعهم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلامَ وَالمسْلِمِينَ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ نَرْجُو فَلاَ تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ. اللَّهُمَّ وَاغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ. اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَانْصُرْ جُنُودَنَا، وَأَيِّدْ بِالْحَقِّ إِمَامَنَا وَوَلِيَّ أَمْرِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى. اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى المرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالمينَ.