24 ربيع أولI, 1447

أَسْبَابُ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ
﴿الخُطْبَةُ الأُوْلَى﴾25/4/1447هـ
الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُه وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70، 71 ]. أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ تَقْوَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا خَيْرُ زَادٍ يُدَّخَرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ واتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197].
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَطَالِبِ الْمَرْءِ وَأَجَلِّهَا رَاحَةَ بَالِهِ وانْشِرَاحَ صَدْرِهِ، فَلَا لَذَّةَ لِلْحَيَاةِ، وَلَا مُتْعَةَ بِالْعَيْشِ إِلَّا بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَرَاحَتِهِ، وَهُوَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، فَيُسَبِّبُ إِحْساسًا رُوحيًّا عَمِيقًا بِالطُّمَأْنِينَةِ، وَالرِّضَى، وَالْبَهْجَةِ وَالسَّعادَةِ، وَاللَّذَّةِ الرُّوحِيَّةِ، وَعَكْسُهُ الضِّيقُ وَالْحَرَجُ وَالْحُزْنُ، وَكآبَةُ المشاعِرِ وَالْحَياةِ.
إِذَا أَجْدَبَتِ الْأَرْضُ، وَماتَ الزَّرْعُ، وَجَفَّ الضَّرْعُ، وَذَبُلَتِ الْأَزْهارُ، وَذَوَتِ الْأَشْجارُ، وَغارَ الماءُ، وَقَلَّ الْغِذاءُ، وَاشْتَدَّ الْبَلاءُ، وَحَلَّ الْهَمُّ، وَخَيَّمَ الْغَمُّ، وَاشْتَدَّ الْكَرْبُ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ، وَضاقَتِ السُّبُلُ، وَبارَتِ الْحِيَلُ، خَرَجَ الْمُسْتَغِيثُونَ بِالشُّيُوخِ الرُّكَّعِ، وَالْأَطْفالِ الرُّضَّعِ، وَالْبَهائِمِ الرُّتَّعِ، فَنادَوا: يا اللهُ يا اللهُ؛ فَيَنْزِلُ الْغَيْثُ، وَيُفَرَّجُ الْهَمُّ، وَيُنَفَّسُ الْكَرْبُ، وَيُذَلَّلُ الصَّعْبُ: ﴿فَاسْتَجَبْنَا ‌لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 88]. لَمَّا اشْتَدَّ الْكَرْبُ بِمُوسَى عليه السلام قالَ: ﴿‌قَالَ ‌رَبِّ ‌اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي﴾ [طه: 25-27].
عِبادَ اللهِ: إِنَّ انْشِراحَ الصَّدْرِ لا يَتَوَقَّفُ عَلَى رَغَدِ الْعَيْشِ؛ فَنَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم كانَ يَمُرُّ عَلَيْهِ الهِلَالُ تِلْوَ الهِلَالِ تِلْوَ الهِلَالِ، ثَلاَثَةُ أَهِلَّةٍ، لَا تُوْقَدُ النَّارُ لِطَبْخِ الطَّعَامِ فِي بَيْتِهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ أَشْرَحَ النَّاسِ صَدْرًا، قالَ تَعالَى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾[الشرح:1]، فَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فِي ذِرْوَةِ الْكَمَالِ مِنْ شَرْحِ الصَّدْرِ، وَرَفْعِ الذِّكْرِ، وَوَضْعِ الْوِزْرِ، وَذَلِكَ لِقِيامِهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعُبُودِيَّةِ التَّامَّةِ لِرَبِّهِ، وَبِقَدْرِ اتِّباعِ سُنَّتِهِ، وَالِاقْتِداءِ بِهَدْيِهِ يَنالُ الْعَبْدُ مِنَ انْشِراحِ صَدْرِهِ، وَقُرَّةِ عَيْنِهِ، وَلَذَّةِ رُوحِهِ، وَكِتابُ رَبِّنا أَصْدَقُ مَنْ يَدُلُّنا عَلَى شَرْحِ الصَّدْرِ، قالَ تَعالَى: ﴿‌أَفَمَنْ ‌شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الزمر:22]، وَقالَ جَلَّ وَعَلا: ﴿‌فَمَنْ ‌يُرِدِ ‌اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾ [الأنعام:١٢٥]، وَنَبِيُّنا صلى الله عليه وسلم هُوَ خَيْرُ مَنْ يَدُلُّنا عَلَى شَرْحِ الصَّدْرِ وَثَمَراتِهِ، قالَ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا ‌دَخَلَ ‌النُّورُ ‌الْقَلْبَ انْفَسَحَ وَانْشَرَحَ. قَالُوا: وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ» [أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن جرير والحاكم والبيهقي في الشعب وغيرهم، وقال ابن كثير: للحديث طرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضًا]
إِنَّ انْشِرَاحَ الصَّدْرِ سَبِيلُهُ فِعْلُ الْمَأْمُوْرَاتِ وَتَرْكُ الـمَحْظُورَاتِ.
وَلَسْتُ أَرَى السَّعَادَةَ جَمْعَ مَالٍ *** وَلَكِــــــنَّ التَّقِـــــــيَّ هُوَ السَّــــــــعِيدُ
أَيُّهَا المُؤْمِنُوْنَ: إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ الْإِيمَانَ الخَالِصَ وَالتَّوْحِيدَ الصَّافِي، وَبِحَسْبِ كَمَالِهِ وَقُوَّتِهِ يَكُوْنُ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ وَانْبِسَاطُهُ، وَهَذا النَّعِيمُ وَالسُّرُورُ يَصِيرُ فِي الْقَبْرِ رِياضًا وَجَنَّةً، وَبِحَسْبِ انْتِقاصِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمانِ يَكُونُ ضِيقُهُ وَعَذابُهُ، وَذَلِكَ الضِّيقُ وَالْحَصَرُ يَنْقَلِبُ فِي الْقَبْرِ عَذابًا وَسِجْنًا؛ فَحالُ الْعَبْدِ فِي الْقَبْرِ كَحالِ الْقَلْبِ فِي الصَّدْرِ نَعِيمًا وَعَذابًا، وَسِجْنًا وَانْطِلاقًا، وَلَا عِبْرَةَ بِانْشِراحِ صَدْرٍ لِعارِضٍ، وَلا بِضِيقِ صَدْرٍ لِعارِضٍ، فَإِنَّ الْعَوارِضَ تَزُولُ بِزَوالِ أَسْبابِها، إِنَّما الْعِبْرَةُ بِما هُوَ مُلازِمٌ لِلْقَلْبِ مَهْمَا تَغَيَّرَتْ أَحْوالُهُ، وَمَهْمَا يَجِدُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ رَاحَةٍ نَفْسِيَّةٍ فِي مَبْدَإٍ غَيْرِ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ، فَإِنَّمَا هِيَ رَاحَةٌ مُزَيَّفَةٌ وَقْتِيَّةٌ مَآلُها الحَسْرَةُ وَالنَّدَامَةُ.
وَمِنْ أَسْبَابِ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ العِلْمُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فالعِلْمُ يَشْرَحُ الصَّدْرَ ويُوَسِّعُهُ، والْجَهْلُ يُورِثُهُ الضِّيقَ والحَصَرَ، فَكُلَّمَا زَادَ عِلْمُ الْعَبْدِ انْشَرَحَ صَدْرُهُ واتَّسَعَ، ولَيْسَ هَذَا لِكُلِّ عِلْمٍ، بَلْ هُوَ لِلْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، الـَّذِي مَصْدَرُهُ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وهُوَ العِلْمُ النَّافِعُ، قَالَ أَبُوْ الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه: “كُنْ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا أَوْ مُحِبًّا أَوْ مُتَّبِعًا، وَلَا تَكُنْ الَخامِسَ فَتَهْلَكَ، قَالَ الرَّاوِيْ: قُلْت لِلْحَسَنِ: مَنْ الْخَامِسُ؟ قَالَ: الْمُبْتَدِعُ”. فَعَلَى الْـمَرْءِ بَذْلُ جُهْدِهِ فِي التَّعَلُّمِ، مَهْمَا بَلَغَ مِنَ العُمُرِ، إِذْ يَقُوْلُ اﻹِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:
تَعَلَّمْ، فَلَيْسَ الـمَرْءُ يُوْلَدُ عَالِمًا وَلَيْسَ أَخُوْ عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ
أَيُّهَا المُؤْمِنُوْنَ: وَمِنْ أَسْبَابِ انْشِرَاح ِالصَّدْرِ وَاطْمِئْنَانِ القَلْبِ الإِنَابَةُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، ومَحَبَّتُهُ بِكُلِّ القَلْبِ، والإِقْبَالُ عَلَيْهِ، والتَّنَعُّمُ بِعِبَادَتِهِ، وذِكْرُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَفِي كُلِّ مَوْطِنٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]. فَلَا اطْمِئْنانَ وَلا راحَةَ، وَلا سَكِينَةَ وَلا أَمَلَ إلَّا بِذِكْرِ اللهِ، سُئِلَ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «‌أَدْوَمُهُ ‌وَإِنْ ‌قَلَّ» [أخرجه مسلم: 782]، فَمَحَبَّةُ اللَّهِ وَدَوَامُ ذِكْرِهِ جَنَّةُ الدُّنْيَا، وَإِنَّ الإِعْرَاضَ عَنِ اللَّهِ وَتَعَلُّقَ القَلْبِ بِغَيْرِهِ وَالغَفْلَةَ، وَالانْكِبَابَ عَلَى الشَّهَوَاتِ؛ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضِيْقِ الصَّدْرِ وَغَمِّ النَّفْسِ، قالَ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ ‌الحَيِّ ‌وَالمَيِّتِ» [متفق عليه].
وَمِنْ أَسْبَابِ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ تَقْوَى اللهِ؛ ﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ ‌لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰاتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذۡنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾[الأعراف:96]. فَالتَّقْوَى سَبَبُ كُلِّ سَعادَةٍ، كَما أَنَّ المعْصِيَةَ سَبَبُ كُلِّ نَكَدٍ وَخُسْرانٍ، فَالَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ هُمْ أَهْلُ الْفَوْزِ وَالنَّجاةِ.
وَمِنْ أَسْبَابِ انْشِراحِ الصَّدْرِ الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، وَنَفْعُهُمْ بِمَا يُمْكِنُ مِنْ الـمَالِ وَالـجَاهِ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الإِحْسَانِ، قالَ صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلى اللهِ عز وجل أَنْفَعُهُمْ للنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلى اللهِ عز وجل: ‌سُرُورٌ ‌تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِم: تَكْشِفُ عَنهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ في حَاجَةٍ؛ أَحَبُّ إِليَّ مِن أَنْ أَعْتَكِفَ في هَذَا المَسْجِدِ شَهْرًا» [رواه الطبراني، وصححه الألباني].
وَيَنْشَرِحُ الصَّدْرُ بِصَفَاءِ الْقَلْبِ وَطَهَارَةِ النَّفْسِ مِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، وَالرِّياءِ وَالْكِبْرِ، وَالتَّحَلِّي بِحُسْنِ الظَّنِّ، وَحَمْلِ النَّاسِ عَلَى أَحْسَنِ الْـمَحَامِلِ، وَلَقَدْ ضَرَبَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ فِي سَلَامَةِ القُلُوبِ، وَطَهَارَةِ الصُّدُوْرِ، كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا بِذَلِكَ؛ حَيْثُ قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ والْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ولَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]. فَكَانَتْ سَلَامَةُ الصَّدْرِ مِيزَانَ التَّفَاضُلِ بَيْنَهُمْ؛ إِذْ يَقُوْلُ إِيَاسُ بنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَن أَبِيهِ، فِي وَصْفِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “كَانَ أَفْضَلُهُمْ عِنْدَهُمْ -يَعْنِي: الْـمَاضِينَ – أَسْلَمَهُمْ صَدْرًا، وأَقَلَّهُم غِيْبَةً”.
أَيُّهَا المُؤْمِنُوْنَ: إِنَّ مِمَّا يَشْرَحُ الصَّدْرَ الْإِيمَانَ بِالقَدَرِ، فَإِذَا عَلِمَ الإِنْسَانُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيْبَهُ اطْمَأَنَّ فُؤَادُهُ وَرَضِيَ بِمَا آتَاهُ مَوْلَاهُ، قالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ: «يَا غُلَامُ، إنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ: أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوْكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوْكَ إلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» [رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح]
وَمِنْ أَسْبابِ شَرْحِ الصَّدْرِ الشَّجاعَةُ وَالْإِقْدامُ؛ فَإِنَّ الشُّجاعَ الْمِقْدامَ مِنْ أَشْرَحِ النَّاسِ صَدْرًا، وَالْجَبانُ الذَّلِيلُ الْمُهانُ هُوَ مِنْ أَضْيَقِ النَّاسِ صَدْرًا، قالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ-: “مَنْ خافَ اللهَ أَخافَ اللهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَنْ لَمْ يَخَفِ اللهَ أَخافَهُ اللهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ”.
وَمِنْ أَسْبابِ شَرْحِ الصَّدْرِ: تَرْكُ ‌فُضُولِ ‌النَّظَرِ وَالْكَلَامِ وَالِاسْتِمَاعِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالْأَكْلِ وَالنَّوْمِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْفُضُولَ لا تَزِيدُ الْقَلْبَ إِلَّا غُمُومًا وَهُمُومًا وَضِيقًا.
وَإِنَّ مِنْ هَدْيِ نَبِيِّنا صلى الله عليه وسلم دُعاءَ شَرْحِ الصَّدْرِ وَذَهابَ الْكَرْبِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» [متفق عليه].
اللَّهُمَّ اشْرَحْ صُدُوْرَنَا، وَيَسِّرْ أُمُوْرَنَا، وَاسْتُرْ عُيُوبَنَا، وَاخْتِمْ بِالصَّالِحَاتِ أَعْمَالَنَا، وَقِنَا شُرُورَ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا.

أَقُولُ قَوْلِيْ هَذَا وَاسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الـمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
﴿الخُطْبَةُ الثانية﴾
الحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَه عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُوْلُهُ، الَّذِيْ شَرَحَ اللهُ تَعَالَى صَدْرَهُ حِسًّا وَمَعَنىً.
أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا المُؤْمِنُوْنَ: اعْلَمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ تَعالَى: أَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ وَحْدَهُ بِكُلِّ الْقَلْبِ، وَعِبادَتَهُ وَفِعْلَ ما يُرْضِيهِ سُبْحانَهُ، سَبَبُ انْشِراحِ الصَّدْرِ، وَسُرورَ النَّفْسِ، وَلَذَّةَ الْقَلْبِ، وَنَعِيمَ الرُّوحِ وَغِذَاءَها وَدَواءَها، وأَنَّ الْإِعْراضَ عَنِ اللهِ تَعالَى، وَالْغَفْلَةَ عَنْ ذِكْرِهِ، وَمَحَبَّةَ سِواهُ، وَتَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِمَتاعِ الدُّنْيا وَشَهَواتِ النَّفْسِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبابِ ضِيقِ الصَّدْرِ، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَ اللهِ عُذِّبَ بِهِ، فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْقَى سَعْيًا، وَلا أَكْسَفَ بالًا، وَلَا أَنْكَدَ عَيْشًا، وَلا أَتْعَبَ قَلْبًا مِنْ عَبْدٍ مُعْرِضٍ عَنْ مَوْلاهُ.
عباد الله: مِنْ أَعْظَمِ وَأَيْسَرِ أَسْبَابِ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ، الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذاكَ سُرُوْرُ النَّفْسِ وَرَاحَةُ القَلْبِ، وَنَعِيْمُ الرُّوحِ، وبِحَسْبِ كَثْرَةِ الصَّلاةِ وَالسَّلامِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَكُونُ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ، وَمَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّهُ، وَقَضَى حَاجَتَهُ، وَغَفَرَ ذَنْبَهُ، وَاسْتَحَقَّ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ القِيَامَةِ، فَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟ -يعني دعائي- فَقَالَ: «مَا شِئْتَ» قُلْتُ: الرُبُعَ؟ قَالَ: «مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» قُلْتُ: النِّصْفَ؟ قَالَ: «مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: «مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا؟ قَالَ: «إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ ويُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ» [رواه الترمذيّ وحسّنه الألباني].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ عز وجل: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]
‎ اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عن الخلفاء الراشدين، وعن الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ ومن تبعهم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلامَ وَالمسْلِمِينَ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ نَرْجُو فَلاَ تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ. اللَّهُمَّ وَاغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ. اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَانْصُرْ جُنُودَنَا، وَأَيِّدْ بِالْحَقِّ إِمَامَنَا وَوَلِيَّ أَمْرِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى. اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى المرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالمينَ.