22 ربيع أولI, 1447

الحجر الذي حرك التاريخ

حين تبدا التحولات الكبرى

منّ شرارة صغيرة

 

في قراءة التاريخ، لا يكفي أن نستعرض الوقائع كما تُعرض الأخبار، ولا أن نفصل الأحداث عن جذورها كما تفعل العناوين العاجلة. فالتاريخ ليس أرشيفًا جامدًا، بل كيان حيّ يتحرك كما تتحرك الدوائر في ماء ساكن حين يُلقى فيه حجر صغير. يبدأ الحدث هامشيًا أو معزولًا، لكنه ما يلبث أن يتمدد تأثيره، ويتحوّل إلى موجة فكرية أو سياسية تغيّر مجرى الواقع.

 

لقد أثبتت التجربة التاريخية أن تحوّلات كبرى بدأت من وقائع بدت في حينها عابرة. خذ مثلًا اغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانز فرديناند في سراييفو عام 1914، حادثة محلية محصورة، لكنها كانت الشرارة التي فجّرت سلسلة من التحالفات وردود الفعل انتهت إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى. وكانت النتيجة إعادة رسم خريطة أوروبا بالكامل، وانهيار أربع إمبراطوريات كبرى.

 

وفي مثال آخر، حين قاد المصارع الروماني سبارتاكوس تمرد العبيد ضد الجمهورية الرومانية، لم يكن هدفه إسقاط النظام، بل التحرر من الاستعباد. التمرد أُخمد، لكن صداه ظل حيًّا، وتحوّل إلى رمز دائم في الذاكرة التاريخية، يذكّر بأن الشرارة الصغيرة قادرة على خلخلة الأسس العميقة للإمبراطوريات.

 

وفي تاريخنا العربي، لم تغب هذه “الحجارة” التي حرّكت مياه التاريخ. ثورة زيد بن علي في الكوفة، وإن لم تنجح عسكريًا، كانت بداية تيار فكري مذهبي امتد لقرون، وأسّس لخطاب مقاوم ظل فاعلًا في اليمن ومناطق أخرى. أما دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي خرجت من الدرعية، فقد تجاوزت البُعد الديني لتصبح حراكًا سياسيًا مهّد لقيام الدولة السعودية الأولى، وأعاد تشكيل موازين القوى في الجزيرة العربية.

 

ما يجمع بين هذه الأمثلة، أنها بدأت في الهامش، لا في المركز. لكنها كانت تملك من المعنى والرمزية ما جعلها قادرة على تحريك البنى الثابتة. وهذا ما قصده المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي حين قال: “الحضارات لا تنهار بفعل الغزو، بل حين تعجز عن الاستجابة للتحدي”. والتحدي هنا ليس دائمًا سيفًا أو جيشًا، بل قد يكون فكرة، أو تمردًا، أو حكاية فردية مشحونة بالرمزية.

 

أما الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، فقد ذهب إلى أبعد من ذلك حين قال: “ليست وظيفة المؤرخ أن يُعيد سرد الماضي، بل أن يُحرر الحاضر من سلطته”. بمعنى أن استعادة التاريخ ليست هدفًا بذاته، بل وسيلة لفهم اللحظة الراهنة، وتفكيك ما يُفرض علينا أنه طبيعي أو حتمي أو “قدر تاريخي”.

 

من هنا، تصبح قراءة التاريخ مهمة تحررية، تتجاوز التوثيق إلى مساءلة السرد. فالمؤرخ الحقيقي لا يُعيد فقط رواية الأحداث، بل يتأمل في سياقاتها، ويتتبع الخيوط الخفية التي تصل بين الحكاية الصغيرة والنتيجة الكبرى. إنه يسأل: كيف بدأ كل شيء؟ ولماذا وصلنا إلى هنا؟ وأي سردية سادت؟ وأي سردية غُيّبت؟

 

في عالم اليوم، ومع التغيرات المتسارعة في منطقتنا، من الحروب إلى الثورات، ومن الأزمات الاقتصادية إلى التحولات الاجتماعية، نحن بحاجة إلى هذه القراءة العميقة. لأن كثيرًا مما نعتبره تفصيلًا أو حدثًا عابرًا، قد يكون في الحقيقة “الحجر القادم” الذي ستحرك دوائره واقعًا بأكمله

الحجر الذي حرّك التاريخ.. حين تبدأ التحوّلات الكبرى من شرارة صغيرة