22 ربيع أولI, 1447
قُلْ خَيْرًا أَوِ اصْمُتْ
﴿الخُطْبَةُ الْأُوْلَى﴾11/4/1447ه
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئَاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ عِبَادَ اللهِ: فاتَّقُوا اللهَ، وَأَطِيعُوهُ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ﴾ [البقرة:123]
أَيُّهَا المسْلِمُونَ: إنَّ اللِّسانَ مِنْ نِعَمِ اللهِ الْعَظِيمَةِ، قالَ تَعالَى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ﴾ [البلد: 8، 9]، وَاللِّسانُ مِنْ لَطائِفِ صُنْعِ اللهِ الْغَرِيبَةِ، فَإِنَّهُ صَغِيرٌ حَجْمُهُ، عَظِيمٌ أَثَرُهُ، وَأَعْصَى الْأَعْضاءِ عَلَى الْإِنْسانِ اللِّسانُ؛ فَإِنَّهُ لا تَعَبَ في إِطْلاقِهِ وَلا مَؤُنَةَ في تَحْرِيكِهِ، وَقَدْ تَساهَلَ الْخَلْقُ فِي الِاحْتِرازِ عَنْ آفاتِهِ وَمَصائِبِهِ، وَإِنَّهُ أَعْظَمُ آلَةٍ لِلشَّيْطانِ في إِغْواءِ الْإِنْسانِ، فَمَنْ أَطْلَقَ لِلسانِهِ الْعَنانَ، سَلَكَ بِهِ الشَّيْطانُ كُلَّ مَيْدانٍ، وَساقَهُ إِلى شَفَا النِّيرانِ، وَلا نَجاةَ مِنْ خَطَرِهِ إِلَّا بِالصَّمْتِ، قالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَمَتَ نَجَا» [رواه الترمذي: 2503]، وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟، فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا». [أخرجه ابن ماجه، رقم: 3972، والترمذي، رقم: 2410، وصححه الألباني]، فَأَعْظَمُ الْأَفْعالِ خُطُورَةً تَكُونُ بِاللِّسانِ، فَكَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَقِراءَةُ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرُ وَالدُّعاءُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ وَالأَمْرُ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المنْكَرِ وَالْإِصْلاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ وَالْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَالسِّبابُ وَاللَّعْنُ وَالْإِفْسادُ بَيْنَ النَّاسِ وَالدَّعْوَةُ إِلَى الْباطِلِ كُلُّ ذَلِكَ وَغَيْرُهُ بِاللِّسانِ؛ سُئِلَ صلى الله عليه وسلم: مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: «التَّقْوَى وَحُسْنُ الْخُلُقِ»، وَسُئِلَ: مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّارَ؟ قَالَ: «الْأَجْوَفَانِ: الْفَمُ، وَالْفَرْجُ» [أخرجه ابن ماجه، 4246، وصححه الترمذي وقال الحاكم: صحيح الإسناد]، وَقالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لهُ الجَنَّة»[متفق عليه]، وَسُئِلَ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْفَأْلِ الْحَسَنِ، فَقَالَ: «الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ» [متفق عليه]. وَاسْتِجابَةُ الدُّعاءِ وَذَهابُ الْهَمِّ وَالْغَمِّ وَقَضاءُ الدَّيْنِ بِكَلِمَةٍ، قالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدائِدَ وَالْكُرَبِ، فَلْيُكْثِرِ الدُّعاءَ فِي الرَّخاءِ» (رواه الترمذي 3382، وصححه الألباني). وَأَوْصَى أَبَا أُمامَةَ رضي الله عنه فَقالَ لَهُ: «أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلامًا إِذَا قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللهُ هَمَّكَ، وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟ قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجالِ»، قالَ: فَقُلْتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَ اللهُ هَمِّي، وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي. [رواه أبو داود 1555، وحسنه الألباني]، وَنَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلِمَةِ (لَوْ)؛ لِأَنَّها تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطانِ، وَالتَّشاؤُمَ، قالَ صلى الله عليه وسلم: «اسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» [رواه مسلم]، هَذَا كُلُّهُ وَغَيْرُهُ يُؤَكِّدُ خُطُورَةَ اللِّسانِ؛ لِذَلِكَ قالَ صلى الله عليه وسلم: »إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ، فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا»[أخرجه الترمذي: 2407، وحسنه الألباني]، وَقالَ صلى الله عليه وسلم: »مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ؛ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ»[متفق عليه]. وَهَذا مِنْ جَوامِعِ كَلِمِهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَصْلٌ فِي حِفْظِ اللِّسانِ، قال الْفُضَيلُ -رَحِمَهُ اللهُ-: “ما حَجٌّ وَلا رِباطٌ وَلا جِهادٌ أَشَدَّ مِنْ حَبْسِ اللِّسانِ، وَلَوْ أَصْبَحْتَ يُهِمُّكَ لِسَانُكَ أَصْبَحْتَ فِي غَمٍّ شَدِيدٍ”. وَقالَ ابنُ المبارَكِ -رَحِمَهُ اللهُ-: “لَوْ كانَ الْكَلامُ بِطاعَةِ اللهِ مِنْ فِضَّةٍ، فَإِنَّ الصَّمْتَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ مِنْ ذَهَبٍ”.
عِبادَ اللهِ: إِنَّ أَعْمالَ الْجَوارِحِ بِالطَّاعَةِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى اسْتِقامَةِ الْقَلْبِ، وَاسْتِقامَةُ الْقَلْبِ بِامْتِلائِهِ بِمَعْرِفَةِ اللهِ وَمَحبَّتِهِ، وَمَحَبَّةِ طاعَتِهِ، وَكَراهِةِ مَعْصِيَتِهِ، وَعَظَمَتِهِ، وَخَشْيَتِهِ، وَمَهابَتِهِ، وَرَجائِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، هَذَا كُلُّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى اسْتِقامَةِ اللِّسانِ؛ فَاللِّسانُ وَالْقَلْبُ مُرْتَبِطانِ، فَاللِّسانُ يَجُرُّ صاحِبَهُ إِمَّا إِلَى جَنَّةٍ، وَإِمَّا إِلَى نارٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:»إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ» [رواه البخاري:6478]، وَقالَ صلى الله عليه وسلم لِمُعاذٍ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُ رَأْسَ الْأَمْرِ وَعَمُودَهُ وَذِرْوَةَ سَنَامِهِ:»أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ!» قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، فَأخَذَ بِلِسانِهِ وَقالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا» قُلْتُ: يَا رسُولَ الله وَإِنَّا لَمُؤاخَذُونَ بما نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ؛ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» [رواه ابن ماجه: 3973، والترمذي:2616، وقال حديث حسن صحيح]، قالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَفَّ اللِّسانِ وَضَبْطَهُ وَحَبْسَهُ هُوَ أَصْلُ الْخَيْرِ كُّلِّهِ، وَأَنَّ مَنْ مَلَكَ لِسانَهُ فَقَدْ مَلَكَ أَمْرَهُ وَأَحْكَمَهُ وَضَبَطَهُ، وَقَدْ تَعَوَّذَ صلى الله عليه وسلم مِنْ شَرِّ اللِّسانِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي، وَمِنْ شَرِّ بَصَرِي، وَمِنْ شَرِّ لِسَانِي، وَمِنْ شَرِّ قَلْبِي، وَمِنْ شَرِّ مَنِيِّي» [الترمذي، برقم ٣٥٢١، وحسنه، وابن ماجه، برقم ٣٨٤٦]، وَقَدْ دَعَا صلى الله عليه وسلم لِمَنْ يَصُونُ لِسانَهُ: «رَحِمَ اللهُ عَبْدًا قَالَ خَيْرًا فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ عَنْ سُوءٍ فَسَلِمَ» [أخرجه ابن أبي الدنيا في: الصمت وآداب اللسان، رقم: 439، وحسنه الألباني]، قالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ: وَمِنَ الْعَجَبِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَهُونُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ وَالِاحْتِرَازُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ وَالظُّلْمِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنَ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَصْعُبُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ مِنْ حَرَكَةِ لِسَانِهِ، حَتَّى تَرَى الرَّجُلَ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالدِّينِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَاتِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، وَلِسَانُهُ يَفْرِي فِي أَعْرَاضِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ.
عِبادَ اللهِ: الْكَلامُ كَالدَّواءِ إِنْ أَقْلَلْتَ مِنْهُ نَفَعَ، وَإِنْ أَكْثَرْتَ مِنْهُ قَتَلَ؛ فَوَجَبَ ضَبْطَهُ، خاصَّةً وَقْتَ الْغَضَبِ وَالْحُزْنِ، فَلَا تَتَكَلَّمْ بِلَا داعٍ، وَلْيَكُنْ كَلامُكَ فِي مَوْضِعِهِ وَوَقْتِهِ، وَعَلَى قَدْرِ الحاجَةِ، لا تَطْوِيلًا مُمِلًّا، وَلا إِيجازًا مُخِلًّا، وَلا مُبالَغَةً مَمْقُوتَةً، وَاخْتَرِ اللَّفْظَ المناسِبَ، وَابْتَعِدْ عَنِ الْفُحْشِ وَالْبَذَاءَةِ، وَالتُّهَمِ بِلا دَلِيلٍ، وَعَنِ المخالَفاتِ الشَّرْعِيَّةِ، كَالْحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ، وَلا تَرْفَعْ صَوْتَكَ بِلَا داعٍ، وَلْيُصَدِّقْ فِعْلُكَ قَوْلَكَ، وَلا تُؤْذِ بِكَلامِكَ أَحَدًا، قالَ صلى الله عليه وسلم: «المسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ ويَدِهِ» [متفق عليه]، اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَمْتَنا فِكْرًا، وَنُطْقَنا ذِكْرًا، وَنَظَرَنا عِبَرًا.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
﴿الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ﴾
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعلَ فَلاحَ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ مُرْتَبِطًا بِذِكْرِهِ سُبْحانَهُ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنْ أُوتِيَ جَوامِعَ الْكَلِمِ، أَمَّا بَعْدُ عِبَادَ اللهِ: اِتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمًا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٍ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].
أَيُّهَا المُؤمِنُونَ: إِنَّ المؤْمِنَ يُمْسِكُ عَنِ المباحاتِ إِذَا خَشِيَ أَنْ تَجُرُّهُ إِلَى المحَرَّماتِ، وَلَسْنَا مَأْمُورِينَ بِالْكَلامِ بِإِطْلاقٍ، وَلَا بِالصَّمْتِ بِإِطْلاقٍ؛ إِنَّما نَتَكَلَّمُ إِذَا كانَتِ الطَّاعَةُ فِي الْكَلامِ، وَنَصْمُتُ إِذَا كانَتِ الطَّاعَةُ فِي الصَّمْتِ، وَمَتَى اسْتَوَى الْكَلامُ وَتَرْكُهُ فِي المصْلَحَةِ فَالْإِمْساكُ عَنْهُ أَفْضَلُ، وَمِنَ الْكَلامِ ما يَكُونُ وَاجِبًا، كَقِراءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلاةِ، وَالْأَذْكارِ الْواجِبَةِ، وَالشَّهادَةِ الْواجِبَةِ إِذَا تَعَيَّنَتْ عَلَى المرْءِ، وَمِنَ الْكَلامِ ما يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، كَقِراءَةِ الْقُرْآنِ وَأَذْكارِ الصَّباحِ وَالمساءِ، وَمِنَ الْكَلامِ ما يَكُونُ مُحرَّمًا، كالشِّرْكِ وَالْكَذِبِ، وَالْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَشَهادَةِ الزُّورِ، وَقَوْلِ (لَوْ كانَ كَذَا) نَدَمًا وَتَسَخُّطًا وَاعْتِراضًا عَلَى الْقَدَرِ، وَمِنَ الْكَلامِ ما هُوَ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ ما لا فائِدَةَ فِيهِ، أَوِ الْكَلامُ فِيْمَا لا يَعْنِي، وَمِنَ الْكَلامِ ما يَكُونُ مُباحًا، وَهُوَ ما يَكُونُ فِي أُمُورِ المعاشِ، وَالْعَمَلِ.
وَالصَّمْتُ كَالكَلامِ، مِنْهُ ما يَكُونُ وَاجبًا، كَالصَّمْتِ عَنِ الْكَذِبِ، وَالْغِيبَةِ، وَالْوَقِيعَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمِنَ الصَّمْتِ ما يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، كَالصَّمْتِ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا لا يَعْنِي الْإِنْسانَ أَنْ يَخُوضَ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ الصَّمْتُ مُحَرَّمًا، كَالصَّمْتِ عَنِ الشَّهادَةِ الْواجِبَةِ، وَعَنِ النَّهْيِ عَنِ المنْكَرِ، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا، كَالصَّمْتِ بَيْنَ المتَخاصِمَيْنِ، وَخَيْرُهُما الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ، وَقَدْ يَكُونُ الصَّمْتُ مُباحًا، كَالصَّمْتِ فِي أَوْقاتِ الرَّاحَةِ.
أَيُّها المبارَكُ: اِعْلَمْ أَنَّ لِسَانَكَ سَيَشْهَدُ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18]، ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور: 24]، وَسَتُحاسَبُ عَلَى ما تَكَلَّمْتَ بِهِ؛ ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَصْحابِهِ رضي الله عنهم يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبادَةَ فِي مَرَضِهِ، فَبَكَى صلى الله عليه وسلم رَحْمَةً لِسَعْدٍ، فَنَظَرَ الصَّحابَةُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقالَ لَهُمْ: «أَلَا تَسْمَعُونَ! إِنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بدَمْعِ العَيْنِ، ولَا بحُزْنِ القَلْبِ، ولَكِنْ يُعَذِّبُ بهذا -وأَشَارَ إلى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ» [أخرجه البخاري: 1304]، فَراجِعْ نَفْسَكَ قَبْلَ أَنْ تَتَكَلَّمَ، فَلِسانُ الْعاقِلِ مِنْ وَراءِ قَلْبِهِ، فَإِذَا أَرادَ الْكَلامَ تَفَكَّرَ هَلْ كَلامُهُ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ؟ وَقَلْبُ الجاهِلِ مِنْ وَراءِ لِسانِهِ، يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ ما يَعْرِضُ لَهُ، وَعَوِّدْ لِسانَكَ الْكَلامَ الطَّيِّبَ، فَقَدْ أُمِرْنا بِذَلِكَ: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء: 53]، ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [الأحزاب: 70، 71] وَالْكَلامُ الطَّيِّبُ يَصْعَدُ إِلَى اللهِ وَيَقْبَلُهُ:﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: 10]، وَمِنَ الصَّدَقاتِ؛ قالَ صلى الله عليه وسلم: «وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ»، وَهِدايَةٌ مِنْ اللهِ تَعالَى ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ [الحج: 24]، وَعِبادُ الرَّحْمَنِ لا يَرُدُّونَ عَلَى الْفَاحِشِ الْبَذِيءِ: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾[الفرقان: 63]، وَقالَ سُبْحانَهُ: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾[الفرقان: 72]، وَالْكَلامُ الطَّيِّبُ جَزَاؤُهُ غُرُفاتِ الْجَنَّةِ الْعالِيَةِ؛ قالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ في الجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُها مِنْ باطِنِها، وَباطِنُها مِنْ ظَاهِرِها»، فَقالَ أَبُو مالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه: لِمَنْ هيَ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: «لِمَنْ أَطَابَ الكَلامَ، وأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وباتَ قائِمًا والناسُ نِيامٌ»، وَفِي رِوايَةٍ: «لِمَنْ أَلَانَ الْكَلامَ»، فَالْزَمْ -بارَكَ اللهُ فِيكَ- الْقَوْلَ الْجَمِيلَ، الَّذِي يُعَمِّرُ وَلا يُدَمِّرُ، وَيَبْنِي وَلَا يَهْدِمُ، وَيَجْمَعُ وَلَا يُفَرِّقُ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ عز وجل: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56] اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عن الخلفاء الراشدين، وعن الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ ومن تبعهم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلامَ وَالمسْلِمِينَ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ نَرْجُو فَلاَ تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ. اللَّهُمَّ وَاغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ. اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَانْصُرْ جُنُودَنَا، وَأَيِّدْ بِالْحَقِّ إِمَامَنَا وَوَلِيَّ أَمْرِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى. اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى المرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالمينَ.