22 ربيع أولI, 1447
*حين يتحوّل الكرم إلى مسرحية استعراضية!*
الدكتور / وليد أبو ملحة
لم يعد الكرم عند بعض الناس عفويًّا .. ولا عُرف الضيافة موروثًا نقيًّا .. بل تحوّل إلى مهرجان “هياط” تفرضه عدسات الجوالات .. وتغذّيه شهية الاستعراض .. حتى صرنا نرى في كل مناسبةإجتماعية كرنفالًا من التكلّف والتصنّع.
تخيّل أن يقف الضيف في الحوش أو الساحة وكأنه مذيع أخبار .. ليعطي “العلم” أمام الكاميرات .. ثم يخرج ليقول بملء فيه: “جينا ومعنا رمز عطاء ومبلغ وقدره …” .. وكأنها صفقة تجارية لا زيارة أخوية! .. وكأن المناسبة اجتماع جمعية خيرية مدعومة من صندوق النقد الدولي .. لا جلسة بين أهل وأقارب وأصدقاء .. والأدهى والأمرّ أن بعض المجالس لم تعد تحفظ مقاماتها .. فترى الصغير يتقدّم الكبير في الكلمة والمكان .. ونرى ممن أغتنوا في غفلة من الزمن يصولون ويجولون ويختالون كالطووايس .. وتتحوّل الليلة إلى حفل خطابي مملّ .. قصائد وصوتيات وتطبيل وإستعراض وتصوير مباشر .. حتى يغدو المُضيّف بطلًا قوميًا لأنه ذبح بهيمة! .. او اعددت فنجال قهوة وجيشت له الفلاشات والتغطيات . أصبحت بطلًا قوميًّا .. وبيتَ كرم يُشاد به في كل الأصقاع .. وقد رأينا ممنن نحسبهم قدوة من مشائخ القبائل .. من يُعلن هداياه لمن أستضافهم على الملأ .. وآخر يُعلن لضيوفه كم من البهائم قام بذبحها .. وقس على ذلك من اعاجيب كرم هذا الزمان.
-هذه الممارسات ليست من كرمنا ولا من عاداتنا .. بل هي امتداد مباشر لـ موجة الهياط التي اجتاحت المجتمع مع جنون “أخذ اللقطة” .. فأصبح همّ الكثيرين أن يوثقوا المشهد لا أن يعيشوا المعنى .. وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي هي الحاكم الجديد .. فمن لا يوثّق .. فكأنما لم يُضِف ولم يُكرِم.
وهكذا طغت هيمنة الاستعراض على الجوهر .. وصار الكرم الحقيقي يُقاس بعدد المتابعين وعدسات السناب .. وبالسمعة المزعومة التي أُكتسبت لا بصدق النية وكرم الفعل.
كرم أجدادنا لم يكن بحاجة إلى قصيدة مدح .. ولا إلى تصوير من عشر زوايا .. لقد كانوا يقدّمون الزاد ببساطة وبلا إعلان .. وكانوا يعتبرون أن الكرم يُخفى ليُحفظ قدره .. لا يُعلن ليُستهلك كسلعة. أجدادنا كانوا يكرمون الضيف في صمت .. يقدمون الطعام بلا منّة ولا “فلتر سناب” .. يعتبرون الكرم دينًا وواجبًا لا حملة دعائية.
ما نحتاجه اليوم ليس المزيد من “الحفلات الخطابية” .. بل عودة إلى روح الضيافة الأصيلة: الكرم الصامت .. العطاء الخفي .. وتقدير الكبير قبل الصغير. فالكرم الحقيقي لا يُختزل في ذبح بهيمة .. ولا يُرفع شأن صاحبه بكمّ القصائد التي أُلقيت في حقه .. إنما يُعرف الكرم عندما يُمارس ببساطة .. حين يُحفظ للضيف قدره دون منّة .. ويُقدَّم العطاء دون استعراض !!ح