11 جمادي أول, 1447

سلسلة حقوق المسلم – حق السلام

﴿الخُطْبَةُ الْأُوْلَى﴾ 2/5/1447هـ

الْحَمْدُ للهِ الحَقِّ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ، أَقامَ الْحُقُوقَ وَجَعَلَ لَها فِي الدِّينِ شَأْنًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الْمَلِكُ العَلَّامُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيِّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُه صلى الله عليه وسلم، أَرْسَلَهُ رَبُّهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ؛ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَيُقِيمَ بِهِ الْحَقَّ بَيْنَ الْخَلْقِ، أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى مَعْشَرَ المؤْمِنِينَ، ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [سورة البقرة: 281] وَامْتَثِلُوا أَوَامِرَ رَبِّكُمْ، وَاجْتَنِبُوا نَوَاهِيَهُ، وَاحْذَرُوا الْهَوَى وَدَوَاعِيَهُ، فَلَا رَاحَةَ لِلنَّفْسِ، وَلَا سَعَادَةَ لَهَا، إِلَّا فِي تَوْحِيْدِ رَبِّهَا وطَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ.

عِبَادَ اللهِ: الْحَمْدُ للهِ ارْتَضَى لَنا الْإِسْلامَ دِينًا، فَجَعَلَ حُقُوقَهُ عَلَى عِبادِهِ، مِنْ عِباداتٍ بَدَنِيَّةٍ كَالصَّلاةِ وَالصَّيامِ، وَمالِيَّةٍ كَالصَّدَقَةِ، وَقَلْبِيَّةٍ كَالمحَبَّةِ وَالْإِنابَةِ، مَبْنِيَّةً عَلَى المسامَحَةِ وَالصَّفْحِ وَالتَّجاوُزِ، فَإِنَّ اسْتِغْفارَ الْعَبْدِ وَتَوْبَتَهُ تَمْحُو خَطاياهُ، وَإِنْ بَلَغَتْ عَنانَ السَّماءِ، أَمَّا حُقُوقُ الْعِبادِ فِيما بَيْنَهُمْ فَبُنِيَتْ عَلَى الْمُشاحَّةِ، فَلا بُدَّ أَنْ يَعْفُوَ المظلُومُ أَوْ يُوَفَّى حَقَّهُ، قالَ صلى الله عليه وسلم: «أَتَدْرُونَ ‌مَنِ ‌الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قال صلى الله عليه وسلم: «الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيَقْعُدُ، فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أَنْ يُقْتَصّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الخَطَايَا، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» [أخرجه مسلم: 2581]، وَمِنْ حُقُوقِ المسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ، قالَ صلى الله عليه وسلم: «حقُّ المسْلِمِ عَلَى المسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا ماتَ فَاتْبَعْهُ»[رواه مسلم: 2162]. وَنَبْدَأُ الْيَومَ مَعَ الْحَقِّ الْأَوَّلِ، وَهُوَ السَّلامُ، وَلِأَهَمِّيَّتِهِ بَدَأَ الْحَدِيثُ بِهِ؛ لِأَنَّ دِينَنا دِينُ السَّلَامِ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِلَى جَمِيْعِ الأَنَامِ، وَقَدْ عَمَّقَ الْإِسْلَامُ مَبْدَأَ السَّلام فِي نُفُوسِ المسْلِمِينَ، فَغَدَا السَّلَامُ لَهُمْ شِعَارًا، كَيْفَ لَا ونَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم جَاءَ سَلَامًا وَرَحْمَةً لِلْبَشَرِيَّةِ لِإِنْقَاذِهَا وَإِخْرَاجِهَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ؟

أَيُّهَا المسْلِمُونَ: السَّلَامُ مُشْتَقٌّ مِنْ صِفَةِ اللهِ وَاسْمِهِ الْكِريْمِ السَّلَامِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ﴾[سورة الحشر: 22]. وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ السَّلَامِ وَمَا اشْتُقَّ مِنْهُ فِي كِتَابِ اللهِ فِي أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ آيَةً، وَجَاءَ بِمعَانٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا الثَّنَاءُ الجَمِيلُ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾ [سورة الصافات:181] وَبِمَعْنَى السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ شَرٍّ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ﴾[سورة ق: 34] وَدَارُ السَّلَامِ هِيَ الْجَنَّةُ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ ۖ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[سورة الأنعام: 127]. وَتَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ السَّلَامَ، وَمَعْنَى تَحِيَّةِ السَّلَامِ الدُّعَاءُ بِالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ آفَةٍ، فَإِذَا قُلْتَ لِشَخْصٍ: السِّلَامُ عَلَيْكَ، فَهَذَا يَعْنِي أَنَّكَ تَدْعُو لَهُ بِأَنَّ اللهَ يُسَلِّمَهُ مِنْ كُلِّ آفَةٍ: يُسَلِّمُهُ مِنْ أَمْراضِ الْأَبْدانِ وَالْقُلُوبِ، يُسَلِّمُهُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ، يُسَلِّمُهُ مِنَ المعَاصِي، يُسَلِّمُهُ مِنَ النَّارِ، فَهُوَ لَفْظٌ عَامٌّ، مَعْنَاهُ الدُّعَاءِ لِلْمُسَلَّمِ بِالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ شَرٍّ، وَالْغَنِيمَةِ مِنْ كُلِّ بِرٍّ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: “وَمَعْنَى: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ أيْ: سَلَّمَكُمُ اللهُ فِي دِينِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ”، وَنَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ عن القاضي عِيَاضٍ -رَحِمَهُمَا اللهُ- أَنَّ مَعْنَى (سَلَامُ اللهِ عَلَيْكَ) أَيْ: “كَلَاءَةُ اللهِ عَلَيْكَ وَحِفْظُهُ؛ كَمَا يُقَالُ: اللهُ مَعَكَ وَمُصَاحِبُكَ”.

عِبَادَ اللهِ: السَّلَامُ تَحِيَّةُ المؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ۚ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾[سورة الأحزاب:44]، وَهُوَ تَحِيَّتُهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾[سورة النور: 61] وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِفْشَاءِ السَّلَامِ بَيْنَ المسْلِمِينَ، فَجَعَلَ أَوَّلَ ما يَحْدُثُ عِنْدَ اللِّقاءِ السَّلامَ، فَإِلْقاءُ السَّلامِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَماءِ، مِنْهُمْ سَماحَةُ الشَّيْخِ ابْنِ بازٍ -رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى وُجُوبِهِ؛ أَخْذًا بِظاهِرِ الْحدِيثِ «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ»، فَهُوَ أَمْرٌ يُفِيدُ الْوُجُوبَ، أَمّا رَدُّ السَّلامِ فَواجِبٌ بِالْإِجْماعِ، قالَ تَعالَى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾[النساء: 86]. فَإِذَا سَلَّمَ الرَّجُلُ عَلَى جَماعَةٍ، وَرَدَّ السَّلامَ واحِدٌ مِنْهُمْ كَفَى عَنِ الْجَمِيعِ، أَمّا إِذَا لَمْ يَرُدَّ أَحَدٌ رَدَّتْ عَلَى الْمُسَلِّمِ الملائِكَةُ، وَحَلَّ الخُسْرانُ بِالْجَماعَةِ الَّتِي أَبَتْ رَدَّ السَّلامِ.

وَجَعَلَ اللهُ السَّلَامَ فِي تَشَهُّدِ الصَّلاةِ؛ وَالتَّشَهُّدُ الْأَوْسَطُ سُنَّةٌ، وَالتَّشَهُّدُ الْأَخِير رُكْنٌ مِنْ أَرْكانِ الصَّلاةِ، وَبَعْضُ الْعُلَماءِ يَجْعَلْهُ واجِبًا، أَوْ سُنَّةً، وَقَدْ عَلَّمَنا إِيَّاهُ نَبِيُّنا صلى الله عليه وسلم: »قُولُوا: ‌التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ« [متفق عليه، واللفظ للبخاري]. فَإِنْ كُنْتَ صَالِحًا دَعَا لَكَ كُلُّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَبَلَغَتْ دَعْوَتُكَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ لِكُلِّ عَبْدٍ صَالِحٍ.

وَمِن ثَمَرَاتِ إِفْشَاءِ السَّلَامِ يَا عِبَادَ اللهِ: أَنَّهُ سَبَبٌ لِسَلَامَةِ الصَّدْرِ، وَمِفْتَاحُ كَسْبِ الْقُلُوبِ وَمَحَبَّةِ النَّاسِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: »وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ« [رواه مسلم: 93].

وَمِنْهَا: أَنَّ فِي إِفْشَاءِ السَّلَامِ أَجْرًا كَبِيرًا، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ، قَالَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: »جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَشْرٌ. ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ. فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَجَلَسَ، فَقَالَ: عُشْرُونَ. ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَجَلَسَ، فَقَالَ: ثَلَاثُونَ« [رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني]. أَيْ: كُتِبَتْ لَهُ ثَلَاثُونَ حَسَنَةً.

وَبِإِفْشَاءِ السَّلَامِ يَعْلُو شَأْنُ الـمُسْلِمينَ؛ قَالَ صلى الله عليه وسلم: »أَفْشُوا السَّلَامَ كَيْ تَعْلُوا« [رواه الطبراني بإسناد حسن]. قَالَ الْمِنَّاوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: “أَيْ: يَرْتَفِعُ شَأْنُكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ إِذَا أَفْشَيْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، فَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُكُمْ، فَقَهَرْتُمْ عَدُوَّكُمْ وَعَلَوْتُمْ عَلَيْهِ، وَأَرَادَ الرِّفْعَةَ عِنْدَ اللهِ”.

كَمَا أَنَّ إِفْشَاءَ السَّلَامِ سَبَبٌ لِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: »إِنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ المغْفِرَةِ بَذْلَ السَّلَامِ، وَحُسْنَ الْكَلَامِ« [رواه الطبراني وصححه الألباني]. وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ مِنْ خَيْرِ الْأَعْمَالِ؛ كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: »إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ« [رواه البخاري ومسلم].

وَهُوَ مِنْ مُوجِبَاتِ دُخُولِ الجَنَّةِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: »يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلَامٍ« [رواه الترمذي والحاكم وصحَّحَه كلاهما]. وَقَدْ جُعِلَ السَّلامُ مِقْياسًا لِلْخَيْرِيَّةِ؛ قالَ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي ‌يَبْدَأُ ‌بِالسَّلَامِ» [متفق عليه]، جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ. أَقُوْلُ مَا تَسْمَعُونَ.. وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيْمُ.

 

﴿الخُطْبَةُ الثَّانِيةُ﴾

الْحَمْدُ للهِ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَيْرُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِينَ، وَرَضِيَ اللهُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ: عِبَادَ اللهِ: فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: »إِنَّ أَبْخَلَ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلَامِ، وَأَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ الدُّعَاءِ« [رواه البخاري في الأدب المفرد وابن حبان في صحيحه وصححه الألباني]. أَمَّا بَاذِلُ السَّلَامِ؛ فَهُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِاللهِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم:»إنَّ أوْلَى النَّاسِ بِاللهِ، مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ«[رواه أبو داود وصححه الألباني].

أَيُّهَا المسْلِمُونَ: إِنَّ لِلسَّلامِ آدَابًا يَنْبَغِي لِلمُسْلِمِ أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا مِنْهَا: أَنْ يُسَلِّمَ الرَّاكِبُ عَلَى الماشِي، وَالماشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرُ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: »يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الماشِي، وَالماشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ«، وَفِي لَفْظٍ: »وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ« [متفق عليه].

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِالْإِشَارَةِ بِالْيَدِ أَوِ الرَّأْسِ؛ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا، فَإِنَّهُ يُسَلِّمُ بِلِسَانِهِ وَيُشِيرُ بِيَدِهِ، وَلَا يَكْتَفِي بِالْإِشَارَةِ؛ وَذَلِكَ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ. وَإِذَا دَخَلَ مَنْ يُرِيْدُ السَّلَامَ عَلَى قَوْمٍ فِيْهِمْ نَائِمٌ فَالسُّنَّةُ فِي حَقِّهِ أَنْ يُسَلِّمَ بِصَوْتٍ مَسْمُوعٍ، لَا يُوقِظُ النَّائِمَ، وَيَسْمَعُهُ الْيَقْظَانُ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ المِقْدَادِ رضي الله عنه قَالَ: »كُنَّا نَحْتَلِبُ، فَيَشْرَبُ كُلُّ إنْسَانٍ مِنَّا نَصِيبَهُ، وَنَرْفَعُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَصِيبَهُ، قَالَ: فَيَجِيءُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيُسَلِّمُ تَسْلِيمًا لَا يُوقِظُ نَائِمًا، وَيُسْمِعُ الْيَقْظَانَ« [رواه مسلم: 2055].

وَإِنَّ مِمَّا يَجْدُرُ التَّحْذِيرُ مِنْهُ سَلَامَ الخَاصَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الصُّغْرَى، وَهُوَ أَنْ يُسَلِّمَ الـمَرْءُ عَلَى خَاصَّتِهِ، وَمَنْ يَعْرِفُهُمْ دُونَ عَامَّةِ المسْلِمِينَ إِذَا مَرَّ بِهِمْ، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: ذَكَرَ صلى الله عليه وسلم: »أَنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ تَسْلِيمَ الخَاصَّةِ« [رواه البخاري في الأدب المفرد، وأحمد، وصححه الألباني] فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ إِفْشَاءِ السَّلَامِ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ، وَمِمَّا يُلَاحَظُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يُسَلِّمُ على غَيْرِهِ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ في الغَالِبِ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ، وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ الَّذِيْ لَا يَرُدُّ السَّلَامَ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ مَنْ لَايَعْرِفُهُ! بَلْ إِنَّ بَعْضَهُمْ يَسْتَنْكِرُ ذَلِكَ السَّلَامَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: »إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُسَلِّمَ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ، لَا يُسَلِّمُ عَلَيهِ إِلَّا لِلْمَعْرِفَةِ« [رواه أحمد بإسناد صحيح]، فَأَحْيُوا عِبَادَ اللهِ هَذِهِ السُّنَّةَ الْعَظِيمَةَ بَيْنَ المسْلِمِينَ؛ لِتَتَقَارَبَ الْقُلُوبُ، وَتَتَآلَفَ الْأَرْوَاحُ، وَيَحْصُلَ الْأَجْرُ وَالْمَثُوبَةُ.

هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ عز وجل: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]

‎اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عن الخلفاء الراشدين، وعن الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ ومن تبعهم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلامَ وَالمسْلِمِينَ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ نَرْجُو فَلاَ تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ. اللَّهُمَّ وَاغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ. اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَانْصُرْ جُنُودَنَا، وَأَيِّدْ بِالْحَقِّ إِمَامَنَا وَوَلِيَّ أَمْرِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى. اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى المرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالمينَ.