10 ربيع أول, 1446

تداخل أزمنة الفعل
إعداد الدكتور
خالد بن أحمد بن إسماعيل الأكوع
أستاذ اللغويات – ومقنن موادها
بجامعة الأعمال والتكنولوجيا

2 / 52
ملخص البحث
قام هذا البحث للجواب عن سؤال طالب جامعي عن مدلول كان في صفات الله عز وجل واعتقاده بأنها كانت لما مضى وانقطع .
وتطور موضوع البحث ليشمل دلالة الأفعال على الزمن الماضي والحاضر والمستقبل .
فتكون البحث من مقدمة وثلاثة فصول :
تناول انتقال دلالة الأفعال عن زمنها في أصل الوضع للدلالة على
معانٍ بلاغية على سبيل المجاز ، إذ إن استعمال الفعل في زمنه الذي وضع له في أصل الوضع حقيقة، وانتقاله عن زمنه مجاز . وذلك لتظافر دلالة الزمن الصرفي للفعل والزمن النحوي المستفاد من السوابق واللواحق والقرائن الحالية
والمقالية .
فالفعل الماضي يستعمل للدلالة على الزمن الماضي هذا هو الأصل، وقد جاء استعماله للدلالة على الحال والاستقبال لتحقيق معنًى بلاغيٍ ، وهو إفادة الحال والاستقبال معنى الحتمية بإنزاله منزلة الأمر المحقق .
وكذلك الفعل المضارع يستعمل للدلالة على الحال والاستقبال
– في مذهب – ويفيد معنى الاستمرارية والتجدد والديمومة ، وعندما يستعمل في الدلالة على الزمن الماضي ، فإنه يدلّ على أن المتصف بالفعل مستمرٌ عليه ، مكرِّرٌ له .  وكذلك فعل الأمر فإنه في أصل الوضع يدل على طلب حصول الشيء في المستقبل ، ولكنه استعمل لما مضى وهو خلاف الأصل للدلالة على حكم الأمر ماضيًا ومستقبلًا .

3 / 52
المقدمة
لهذا البحث قصة ، وهي أني وفي معرض شرحي لطلابي درس الأفعال الناقصة ( كان وأخواتها ) ضربت مثالاً من القرآن الكريم ، وهو قوله عز وجل ﴿ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [ النساء : 100 ] .
فاستوقفني أحد الطلاب سائلًا ، إن الفعل يدلُّ على المضي يا دكتور ، فكيف الحال الآن ؟
فارتجلت جوابًا عقديًا ، وقلت : إن صفات الله عز وجل أوّلية بلا ابتداء ، دائمة بلا انتهاء .
فسُرَّ الطالب بالجواب وسرَّ من حضر ممن كان صحيح النِّيَّة ، ولكنني عوّدت نفسي وطلابي على الاحتكام إلى أدّلة  النحو وبراهينه ، وفق معطياته وسنن العرب في كلامها ، وذلك مالم يكن حاضرًا في ذهني ولم يتضمنه جوابي .
وهنا عدّت لأمّهات الكتب والمراجع ، إلا أن البحث ازداد تعقيدًا وإن كنت وجدت جوابي المرتجل ، وذلك أنني وجدت نصًا يقول :
« وقال الصفار في شرح سيبويه : إذا استعملت ( كان ) للدلالة على الماضي فهل تقتضي الدوام والاتصال أو لا ؟ مسألة خلاف : وذلك أنك إذا قلت ( كان زيد قائمًا ) فهل هو الآن قائم ؟ الصحيح أنه ليس كذلك، هذا هو المفهوم ضرورة ، وإنما حملهم على جعلها للدوام
ما ورد من مثل قوله تعالى : ﴿ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ وقوله : ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ﴾ »(1) .
فقوله : « إنه ليس كذلك .. وإنما حملهم على جعلها للدوام »

4 / 52
أثار لدي عدة تساؤلات جعلتها فرضيات بحثي ، وهي :
س/ هل يقتصر استعمال الفعل على زمنه ؟
س/ هل تأتي كان للمضي والانقطاع فقط ؟
س/ هل تتداخل أزمنة الأفعال ، فيعبَّر بالمضيّ عن الحال والاستقبال ، وبالمضارع عن الماضي ونحوه ؟
س/ هل يحمل التداخل معاني دلالية تتحقق من أصل وضع الأفعال ؟
س/ هل التداخل سماعي أو قياسي ؟ وهل عُلِّل ودخل كتب النحو .
وهناك جهود مشكورة لمحدثين تناولت هذه القضية ولكن بشكل عام إذ جاءت في سياق دراسة الزمن في العربية وتوسعت بإدخال المشتقات العاملة عمل الفعل في باب الأفعال موافقة للمذهب الكوفي  القائل بالفعل الدائم ( اسم الفاعل ) الذي يفيد المضي إذا أضيف إلى معموله ، ويفيد الاستقبال إذا نون ونصب مفعولاً ، ومن أبرز هذه الدراسات ، كتاب الفعل زمانه وأبنيته لإبراهيم السامرائي ، واللغة العربية لتمام حسان ، والفعلية في العربية لعبد الوهاب حسن ، وتسير هذه الدراسة في سياقها ولكنها متخصصة في قضية تداخل أزمنة الفعل فقط لتأصيلها وتحليلها وكشف دلالاتها ، وبذلك تميزت .
ومن الثابت أن دلالة الأفعال على أزمنتها المعروفة ( يدل الماضي على الزمن الماضي ، والمضارع على الحال والاستقبال ، والأمر على المستقبل ) هي من حيث أصل الوضع وهو ما يعرف بالزمن الصرفي للفعل ، أما من جهة الاستعمال فقد يأتي الفعل بلفظ الماضي وهو راهن أو مستقبل ، وبلفظ

5 / 52
المستقبل وهو ماضٍ، جاء ذلك في سنن العرب في كلامها متى أرادوا تحقيق دلالة بلاغية ، تنجم من دلالة الفعل في أصل وضعه عند استعماله في الزمن الآخر ، ويستفاد ذلك من تظافر دلالة الزمن الصرفي للفعل بالزمن النحوي له ، وهو المتمثل في السوابق واللواحق والسياق .
فالفعل الماضي يدل على تحقق الأمر ، والفعل المضارع يدل على استمراره وديمومته وتكرار صفته وتجدد حدوثه ، وفعل الأمر يدل على الطلب في المستقبل ، هذه دلالات الأفعال في أصل وضعها ، وعندما تُستخدم في غير زمنها تلقي بظلال دلالتها الأصلية على الزمن الآخر المستعملة فيه .
وعلى هذا مدار بحثي تفصيلًا ، وتقنينًا ، وتبيانًا لمواضع الحقيقة والمجاز فيه ، والقياسي والسماعي منه ، ونجيب عن سؤال الطالب في طياته ، وأسأل الله العون والتوفيق .

6 / 52
المدخل
دلالة الأفعال على الزمان في أصل الوضع وفي الاستعمال :
الفعل حدث ، والحدث لا يكون إلا في زمان ، والزمان
ماضٍ وحاضر ومستقبل ، كذلك هو في الفكر والفلك المشاهد ، قال زهير
( الطويل ) :
وأعلمُ ما في اليومِ والأمس قبله         ولكنني عن علم ما في غدٍ عَمِي(2)
والأفعال بُنيت صيغتها على أساس الزمان فالفعل يدلّ على الزمان ببنيته الصرفية لما مضى وللحال والاستقبال .
وقال أبو حيان(3) في دلالة الفعل : « إنه يدل على الحدث بلفظه وعلى الزمان بصيغته ، أي كونه على شكل مخصوص ، ولذلك تختلف الدلالة على الزمان باختلاف الصيغ ، ولا تختلف الدلالة على الحدث
باختلافها »(4) .
والأصل أن بناء الماضي ( فَعَلَ ) يدل على تحقق الأمر ووقوعه في الزمن الماضي ، وبناء المضارع ( يفعل ) يدل على استمرار الأمر وديمومته ، وبناء الأمر ( افعل ) يدل على طلب حصول الأمر في المستقبل ، هذا في أصل الوضع ، وهي الدلالة الصرفية لأبنية الأفعال أي الزمن الصرفي ، واستعمالها في أزمنتها التي وضعت لها حقيقة .
أما استعمالها في غير زمنها فهو مجاز يهدف إلى تحقيق معانٍ بلاغية تستفيدها من دلالتها الزمانية في أصل الوضع عند انتقالها

7 / 52
عنه ، بأثر من السوابق واللواحق وقرائن السياق في الجملة وهو الزمن النحوي للأفعال .
فالماضي قد يستعمل مرادًا به الحال أو المستقبل خلافًا للأصل فيكون بذلك مجازًا واستعماله في الزمن الماضي حقيقة .
وكذلك الفعل المضارع إذا استعمل في الحال أو الاستقبال
– ( عدّه بعض النحويين مجازًا في الاستقبال ) – كان حقيقة ، وإذا استعمل في الدلالة على الماضي أو الطلب في الاستقبال كان مجازًا وهو خلاف الأصل .
وفعل الأمر إذا استعمل في طلب حصول الفعل في المستقبل كان حقيقة ، وإذا استعمل في الدلالة على الماضي فخرج إلى الخبر كان
مجازًا .
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ مراحل الزمن الثلاثة تتفاوت درجات كلٍّ منها في ذاته ، فللفعل الماضي تسع جهات زمنية يستفيدها من تظافر الزمن الصرفي لبنيته بالزمن النحوي الناجم عن السوابق واللواحق والسياق ، وهي كما مثل لها تمام حسان في الجملة الخبرية :

8 / 52
1 – الماضي البعيد المنقطع ( كان فعل ) . 2 – الماضي القريب المنقطع ( كان قد فعل ) . 3 – الماضي المتجدد ( كان يفعل ) .
4 – الماضي المنتهي بالحاضر ( قد فعل ) . 5 – الماضي المتصل بالحاضر ( مازال يفعل ) . 6 – الماضي المستمر ( ظل يفعل ) . 7 – الماضي البسيط ( فعل ) . 8 – الماضي المتقارب ( كاد يفعل ) . 9 – الماضي الشروعي ( طفق يفعل ) .
والحال العادي والتجددي والاستمراري ( يفعل ) وهي ثلاث جهات .
وللاستقبال أربع جهات هي: 1 – البسيط (يفعل). 2 – القريب (سيفعل). 3 – البعيد ( سوف يفعل ). 4 – الاستمراري ( سيظل يفعل ) (5) ، وله كلام مماثل في الجملة الإنشائية فيرجع إليه .

9 / 52
المبحث الأول
دلالة الفعل الماضي على الحال والاستقبال
أشار سيبويه إلى مجيء الماضي بمعنى الحال والاستقبال بقوله :
« تقول إنْ فعَلَ فَعَلتُ فيكون في معنى إنْ يَفْعَلْ أَفْعَلْ .. وقد وقعت موقعها في إنْ »(6) .
وجاء في الصاحبي : « باب الفعل يأتي بلفظ الماضي وهو راهن أو مستقبل ، وبلفظ المستقبل وهو ماضٍ : قال الله جلّ ثناؤه : ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾ [ آل عمران : 110 ] أي : أنتم .
وقال جل ثناؤه : ﴿ أَتَى أَمْرُ اللّهِ ﴾ [ النحل : 1 ] أي : يأتي .
وعدّ ابن خروف عدم ذكرها في أزمنة الفعل غفلة من الزجاج في كتابه الجمل ، فقال : « وسكت أبو القاسم عن هذا غفلة فلفظ الماضي قد ينتقل عن موضوعه ، فيقع موقع الحال ؛ نحو قوله تعالى : ﴿ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ﴾ [ النساء : 90 ] .
ويقع موقع المستقبل بعد حروف الشرط ؛ نحو [ إنْ قمْتَ
قُمْتُ ] »(7) .
وقد تتبعت مواضع دلالة الفعل الماضي على الحال والاستقبال في كتب النحاة واللغويين وكتب إعراب القرآن ، وبحثت عن عِلَّة انتقال الماضي عن زمنه إلى الحال والاستقبال ، فوجدتها تهدف إلى إنزالهما منزلة الأمر المحقق .
وإليك مواضع انتقال الماضي للدلالة على الحال والاستقبال

10 / 52
وأسبابه وعِلَّته :
1 – بعد حروف الشرط(8) وأمها ( إنْ ) « إنْ مُتَّ على الإسلام دخلت الجنة » وقد تقدم قول سيبويه فيها .
والسبب في وقوع الماضي بعدها بمعنى الحال والاستقبال أنها شرطية لعقد السببية والمسببية في المستقبل ، والمعنى كما قاله النحاة : إنْ تمت على الإسلام تدخل الجنّة ، والعلّة في ذلك إنزالها منزلة الأمر المحقق .
قال الزركشي(9) في البرهان : « للنحاة فيها تقديران :
أحدهما : أن الفعل يغير لفظًا لا معنى ، فكان الأصل إن
تمت مسلمًا تدخل الجنة فغيّر لفظ المضارع إلى الماضي تنزيلًا له منزلة المحقق .
والثاني : أنه تغيّر معنى وأن حرف الشرط لما دخل عليه قلب معناه إلى الاستقبال وبقي لفظه على حاله .  والأوّل أسهل لأن تغيّر اللفظ أسهل من تغير المعنى »(10) .
وأصل هذا الباب هو إنزال الأمر منزلة المحقق ، وهو كذلك المعنى الجامع لأقوال البلاغيين ، إذ يقولون : « يجيء فعل الشرط ماضي اللفظ لأسباب :
– منها إيهام جعل غير الحاصل كالحاصل ، كقوله تعالى : ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا ﴾ .
– ومنها إظهار الرغبة من المتكلم في وقوعه ، كقولهم : إن ظفرت بحسن العاقبة فذاك ، وعليه قوله تعالى : ﴿ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا ﴾
أي امتناعًا من الزنا ، جيء بلفظ الماضي ولم يقل يردن إظهارًا لتوفير رضا الله ورغبةً في إرادتهن التحصن .

11 / 52
لتوفير رضا الله ورغبةً في إرادتهن التحصن .
– ومنها التعريض بأن يُخاطب واحدًا ومراده غيره ، كقوله تعالى : ﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ »(11) .
وفي الخصائص : « وكذلك قولهم : إن قمتَ قمتُ .  فيجيء بلفظ الماضي والمعنى معنى المضارع ، وذلك أنه أراد الاحتياط للمعنى ، فجاء بمعنى المضارع المشكوك في وقوعه بلفظ الماضي المقطوع بكونه ، حتى كأن هذا وقع واستقر لا أنه متوقع مترقب »(12) .
2 – إذا وقع الماضي حالًا :
الأصل ألا يقع حالًا لأن زمانه مضى وليس بهيئة في ذلك الزمن، ولذا قال النحاة : « الفعل الماضي لا يكون حالًا إلا بـ(قد) مظهرة أو مضمرة كقولك : ( جاء زيد ركب ) لأن الحال إما مقارنةٌ أو منتظرةٌ والماضي منقطعٌ عن زمن العامل ، وليس بهيئة في ذلك الزمان ، و( قد ) تقربه من الحال(13) .
ومنه قوله تعالى : ﴿ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ﴾ [ النساء : 90 ] : « قيل لفظه ماضٍ والمعنى على المضارعة ، أي : جاؤوكم تحصر صدورهم ، لأن الحصر كان موجودًا وقت مجيئهم فحقه أن يعبَّر عنه بفعل الحال ، وقيل التقدير بفعل قد حصرت »(14)  .
فاشتراطهم ( قد ) ظاهرة أو مضمرة قبل الماضي يقربه من زمن الحال ، والعلّة في استعمال زمن الماضي مكان الحال الدلالة على حصول الضيق قبل مجيئهم ، فكأنهم عندما ضاقوا جاؤوكم ، وهذا المعنى لا يتحقق لو جاء الحال مضارعًا إذ يُتوهم أن المجيءَ هو سبب الضيق ، وليس الضيق هو سبب المجيء ، فدلّ