10 ربيع أول, 1446

حقوق المرأة في الأنظمة السعودية من منظور الشريعة الإسلامية وتميُّزها عن الأنظمة الأخرى
الدكتورعبد العزيز بن فوزان بن صالح الفوزان
د. عبد العزيز بن فوزان بن صالح الفوزان
عضو مجلس هيئة حقوق الإنسان، وأستاذ الفقه المقارن المشارك في المعهد العالي للقضاء
 
 
 
 
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
مقدمة البحث
مقدمة البحث
الحمد لله الذي هدانا للتي هي أقوم، وفضلنا بهذا الدين على سائر الأمم، وأشهد أن لا إله إلا الله الأعز الأكرم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأعظم، وسيد العرب والعجم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم. أما بعد:
فقد تضمنت الأنظمة السعودية المستمدة من الشريعة الإسلامية الغراء حقوقاً للمرأة لا تكاد تجدها في أي نظام وضعي، وهي حقوق قائمة على العدل والرحمة والحكمة والمصلحة، وضمان التكامل الإيجابي والتعاون البناء بين الرجل والمرأة، ومراعاة قدرات كل منهما وإمكاناته، والتجاوب مع حاجاته

2 / 57
وتطلعاته؛ والمؤسف أن كثيراً من المسلمين يظنون أن حقوق الإنسان مصطلح غربي دخيل على المسلمين، ولا أساس له في الإسلام، وبخاصة أن قضايا حقوق الإنسان أصبحت مسيسة خاضعة لمصالح بعض القوى الغربية، وبعض الثقافات والنظريات الجاهلية، ووسيلة للضغط على المسلمين وابتزازهم.
كما يظن كثير من الغربيين أنهم هم الرواد في مجال تقرير الحقوق الإنسانية والمطالبة بحفظها، وأن المسلمين لا يعرفون هذه الحقوق ولا يحترمونها، ولم يكن لهم علم بها إلا حين صدَّرها الغرب إليهم وطالبهم بالمحافظة عليها!! ويجهل هؤلاء الغربيون أو يتجاهلون أن الشريعة الإسلامية إنما جاءت بكل أحكامها وتشريعاتها لأجل حفظ مصالح الإنسان وحقوقه المشروعة، وخاصة حقوق المرأة، وأن حقوقها لم تحفظ في أي قانون وضعي كما حفظت في الشريعة الإسلامية الغراء!!
وقد يؤكد هذا الظن الخاطئ ما يوجد في البلاد الإسلامية على مستوى الأفراد والحكومات من ممارسات ظالمة، وانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان المشروعة، وخاصة حقوق المرأة، مما جعل كثيراً من غير المسلمين في الغرب والشرق يظنون بالإسلام ظن السوء، ويعتقدون أن تعاليمه هي التي تكرس هذه الممارسات الخاطئة، والانتهاكات الظالمة.
ولما كانت الأنظمة السعودية مستمدة من الشريعة الإسلامية كان لزاماً علينا أن نبين مدى مطابقتها للشريعة الإسلامية وأثرها في حفظ حقوق المرأة، ونشرح سبب الانتهاكات الواقعة على المرأة في السعودية، وفي أمثالها من الدول الإسلامية.
وقد تضمن البحث مقدمة وتمهيد وفصل واحد  وخاتمة، وذلك على النحو الآتي:
تمهيد: كلمة موجزة عن حقوق الإنسان في الإسلام والنظام السعودي.
فصل : في بيان حقوق المرأة في الأنظمة السعودية من منظور الشريعة الإسلامية وتميزها عن الأنظمة الأخرى
والخاتمة ضمنتها ملخصاً للبحث وجملة من التوصيات المهمة في هذا الباب.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، موافقاً لشرعه، نافعاً لي ولعباده، ذخراً لنا يوم لقائه، وأن يوفق أمة الإسلام للتمسك بدينها، وأداء ما شرعه الله لها من حقوقه وحقوق عباده.
تمهيد
             كلمة موجزة عن حقوق الإنسان في الإسلام والنظام السعودي
أجمع العلماء قاطبة على أن المقصد الكلي للشريعة الإسلامية هو تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، فما من حكم شرعه الله أمراً كان أو نهياً إلا وهو جالب لمصلحة، أو دارئ لمفسدة، أو جالب ودارئ في

3 / 57
آن واحد(1). وهذه المصالح هي جماع حقوق الإنسان، التي تنحصر على اختلاف مسمياتها، وتنوع مقتضياتها في حفظ المصالح الخمس الكبرى، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وحفظ ما يخدمها ويكملها من الحاجيات والتحسينيات، وهذه الضروريات الخمس وما يخدمها ويكملها هي المصالح المقصودة للشارع من تشريع الأحكام، ولا يخرج عنها أي حكم من أحكام الشريعة الإسلامية أمراً كان أو نهياً.
وهذه المصالح المقصودة من تشريع جميع الأحكام هي الجامعة لحقوق الإنسان المشروعة، وعليه فإن أحسن ما يقال في تعريف حقوق الإنسان: أنها جميع المصالح المادية والمعنوية، التي يستحقها الإنسان شرعاً.
وإذا كان العالم المعاصر يتغنى بحقوق الإنسان وحفظ مصالحه، وقد يخيل لكثير من الناس أن هذا من مبتدعات العصر ومحاسنه فإن الله تعالى أخبرنا بأنه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجل إسعاد الإنسان وحفظ مصالحه وحماية حقوقه المشروعة، كما قال ربنا سبحانه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط)[الحديد:25]، فبين أن الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب هو إقامة القسط والعدل بين الناس، والعدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، ووضع كل شيء في موضعه، وبهذا يسعد الناس وتحفظ حقوقهم ومصالحهم، ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِم)[الأعراف:157]، فهو لا يأمر إلا بالمعروف الذي أمر الله به، وتعرفه العقول السليمة والفطر المستقيمة، ولا ينهى إلا عن المنكر الذي نهى الله عنه وتنكره العقول السليمة والفطر المستقيمة، ولا يحل إلا ما أحله الله من الطيبات النافعات، ولا يحرم إلا ماحرمه الله من الخبائث المضرات، وأكد ذلك بقوله:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين)[الأنبياء:107] ولو كان في هذه الشريعة الغراء شيء ضد مصلحة الإنسان وحقوقه المشروعة لم تكن رحمة للعالمين، كما بين سبحانه في آيات كثيرة أن هذا الشريعة المباركة قائمة على العدل والقسط، والمصلحة والحكمة، والإحسان والرحمة، فالله تعالى من كمال رحمته بعباده وعظيم فضله عليهم لا يأمرهم إلا بالعدل والحق، والإحسان والبر، ولا ينهاهم إلا عن الظلم والباطل، والفحشاء والمنكر، كما قال عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون)[النحل:90]، وقال: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا

(1) قال العز بن عبد السلام: “والشريعة كلها مصالح، إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح، فإذا سمعت الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيراً يحثك عليه أو شراً يزجرك عنه، أو جمعاً بين الحث والزجر، وقد أبان في كتابه ما في بعض الأحكام من المفاسد، حثاً على اجتناب المفاسد، وما في بعض الأحكام من المصالح، حثاً على إتيان المصالح”. قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/9.

4 / 57
وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم)[الأنعام:115]، أي: أن كلامه سبحانه كله صدق وحق، وأحكامه كلها عدل وقسط، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُون)[المائدة:50].
وانطلاقاً من هذه المبادئ العظيمة فإن الشريعة الإسلامية لم تحافظ على حقوق الإنسان فحسب، بل تجاوزتها إلى ما هو أهم وأسمى، وأعظم إكراماً  للإنسان وأكثر إعزازًا له، ألا وهو تقرير كرامة الإنسان، وتفضيله على سائر الحيوان، وإسباغ النعم عليه، وتسخير ما في السموات والأرض له.
لقد قررت الشريعة مبدأ الكرامة الإنسانية، لكل الناس على اختلاف أجناسهم وأعراقهم، وألوانهم، ولغاتهم، وأديانهم، وبلدانهم، إننا عندما نتكلم عن تكريم الإسلام للإنسان نكون قد تجاوزنا مسألة حفظ حقوق الإنسان، وتحريم ظلمه وانتهاك حقوقه، فهذا من مسلّمات الشريعة وأبجدياتها، وهذا الحق مضمون حتى للبهائم والحيوانات، وليس أدل على ذلك من أن تدخل النار امرأة في هرة حبستها حتى ماتت، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، وفي المقابل يغفر الله لزانية ويدخلها الجنة بكلب سقته كاد يقتله العطش(2)، فإذا كان هذا المستوى قد ضمن للحيوان، فإن ما ضمنته الشريعة الإسلامية للإنسان أشرف من هذا وأعظم، إنه مفهوم التكريم للإنسان الذي قرره ربنا في هذه الآية الجامعة المحكمة: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الإسراء:70].
فجعل التأكيد المتمثل في استخدام لام القسم، و”قد” التي تفيد التحقيق دليلاً على أن هذا التكريم عام شامل لجميع أفراد بني آدم، وأنه تكريم استحقوه بمحض البشرية، وليس خاصاً بقوم دون آخرين، أو جنس دون غيرهم، قال الألوسي في تفسير الآية: “(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم) أي: جعلناهم قاطبة برهم وفاجرهم ذوي كرم، أي شرف ومحاسن جمة لا يحيط بها نطاق الحصر. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كرمهم سبحانه بالعقل، وفي رواية بتناولهم الطعام بأيديهم لا بأفواههم كسائر الحيوانات، وعن الضحاك بالنطق، وعن عطاء بتعديل القامة وامتدادها، وعن زيد بن أسلم بالمطاعم واللذات، وعن يمان بحسن الصورة، وعن ابن جرير بالتسلط على غيرهم من الخلق وتسخيره لهم، وعن محمد بن كعب بجعل

(2) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض” رواه البخاري (3223)، ومسلم (4160). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بينما كلب يُطيف بركية قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها، فاستقت له به فسقته إياه؛ فغفر لها به” رواه البخاري (3208)، ومسلم (4163).

5 / 57
محمد صلى الله عليه وسلم منهم. وقيل: بخلق الله تعالى أباهم آدم بيديه، وقيل : بتدبر المعاش والمعاد، وقيل: بالخط… وقيل وقيل، والكل في الحقيقة على سبيل التمثيل؛ ومن ادعى الحصر في واحد كابن عطية حيث قال: إنما التكريم بالعقل لا غير، فقد ادعى غلطاً، ورام شططاً، وخالف صريح العقل وصحيح النقل، ولذا استدل الإمام الشافعي بالآية على عدم نجاسة الآدمي بالموت”(3).
وقال السعدي في تفسيره: “كرم بني آدم بجميع وجوه الإكرام، فكرمهم بالعلم والعقل، وإرسال الرسل وإنزال الكتب، وجعل منهم الأولياء والأصفياء، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة”(4).
وقال ابن عاشور رحمه الله في تفسير الآية: “فأما منة التكريم فهي مزية خص بها الله بني آدم من بين سائر المخلوقات الأرضية، والتكريم: جعله كريما، أي: نفيساً غير مبذول ولا ذليل في صورته ولا في حركة مشيه، وفي بشرته، فإن جميع الحيوان لا يعرف النظافة ولا اللباس ولا ترفيه المضجع والمأكل ولا حسن كيفية تناول الطعام والشراب ولا الاستعداد لما ينفعه ودفع ما يضره، ولا شعوره بما في ذاته وعقله من المحاسن فيستزيد منها، والقبائح فيسترها ويدفعها، بله الخلو عن المعارف والصنائع وعن قبول التطور في أساليب حياته وحضارته”.
ولهذا كان أسعد الناس، وأكثرهم أمناً، وأطيبهم حياة، وأهنئهم عيشاً، أكثرهم تمسكاً بدين الله والتزاماً بشرعه، قال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون)[النحل:97]، فضمن لكل من آمن به وعمل صالحاً من الأفراد والمجتمعات أن يحيا حياة طيبة، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بحفظ حقوق هذا الإنسان، وصيانة حرماته، وحماية مصالحه، وقال تعالى: (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون)[البقرة: 38]، وقال تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)[طه: 123]، وقال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُون)[الأنعام: 82]، فمن آمن بالله تعالى واتبع هداه، والتزم بشريعته، كان له تمام الأمن والهداية في الدنيا وفي الآخرة، وألا يضل فيهما ولا يشقى، ولا يخاف ولا يحزن، فكان الالتزام بدين الله، والأخذ به عقيدة وشريعة ومنهاج حياة هو الضمانة الحقيقية لإسعاد الإنسان، وحفظ حقوقه، وضمان أمنه واستقراره، ليس في الدنيا فحسب، بل في الدنيا والآخرة.
مصطلح حادث:

(3) روح المعاني 11/22.
(4) تيسير الكريم الرحمن 1/463. وانظر نحوه في تفسير القرطبي 10/293.

6 / 57
تبين مما سبق أن الشريعة الإسلامية إنما جاءت بكل أحكامها وتشريعاتها لأجل هداية الإنسان وإسعاده، وحفظ حقوقه ومصالحه. ولكن ثمة تساؤل مهم قد يرد على أذهان بعض الناس، وهو أن حقوق الإنسان مصطلح حادث لم يرد ذكره في الكتاب والسنة، ولا في أقوال العلماء السابقين ومصنفاتهم، فكيف نقول: إن الشريعة الإسلامية جاءت لحفظ حقوق الإنسان؟!
والجواب عن هذا التساؤل من وجهين:
الوجه الأول: جواب بالتسليم، وهو أن هذا المصطلح  المركب وإن كان محدثاً ولم يذكر في نصوص الكتاب والسنة ولا في أقوال الأئمة فإن العبرة في المصطلحات بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، ولا مشاحة في الاصطلاح، والمراد بهذا المصطلح هو حفظ مصالح الإنسان وحقوقه المعتبرة، التي هي الأصل الجامع لمقاصد الشريعة الإسلامية، وهي مقصود الشارع من تشريع الأحكام، وتسميتها بمصالح الناس أو حقوق الناس لا يغير من الحقيقة شيئاً، فحقوق الإنسان معناها مصالح الإنسان، التي لا يمكن أن يسعد وتستقيم حياته في معاشه ومعاده إلا بها، وهي محصورة في الضروريات الخمس الكبرى من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وحفظ ما يكملها من الحاجيات والتحسينيات، وهذا هو المقصد الكلي للشريعة الإسلامية الغراء، وهو الذي جاءت الشرائع السماوية كلها لتحقيقه.
ولهذا فلعل أحسن ما يقال في تعريف حقوق الإنسان: أنها المصالح المستحقة شرعاً للإنسان أو عليه.(5)
وهذا يشمل كل الحقوق المشروعة المادية والمعنوية، الخاصة والعامة، سواء أكانت حقوقاً لله تعالى أم حقوقاً للآدميين، وسواء أكانت حقوقاً يستحقها الإنسان، أو حقوقاً مستحقة عليه لغيره، وهي ما يسمى بواجبات الإنسان، فكل حق يقابله واجب.
وحقوق الله تعالى هي: ما يتعلق به النفع العام للعباد ولا يختص به أحد(6)، فهي كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تعريفها: “هي التي ليست لقوم معينين، بل منفعتها لمطلق المسلمين أو نوع منهم، وكلهم محتاج إليها”(7)، وهي ما يعبر عنه بعض العلماء بـ”الحق العام”، وأما ما يتعلق به مصلحة خاصة فهو حق الآدمي.(8)

(5)  ينظر: بحثي “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثرهما في حفظ الحقوق والحريات” منشور ضمن بحوث “ندوة الحسبة وعناية المملكة العربية السعودية بها”.
(6)  ينظر: كشف الأسرار  4/230، وتيسير التحرير 2/174 وكشاف اصطلاحات العلوم والفنون 1/683، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام ص:152.
(7)  السياسة الشرعية ص: 87.
(8)  ينظر: كشف الأسرار 4/230، و شرح التلويح على التوضيح 1 /151، وكشاف اصطلاحات العلوم والفنون

7 / 57
وهذا التفريق بين الحقوق الخاصة والعامة اصطلح عليه أهل العلم من أجل التمييز بين هذين النوعين من الحقوق، ولتسهيل فهم خصائص كل نوع منها وأحكامه، ولكنهم متفقون على أنه ما من حق للعبد إلا ولله سبحانه وتعالى حق فيه؛ إذ من حقه سبحانه وتعالى على عبده المكلف: الامتناع عن ظلم نفسه أو غيره، وحفظ مصالح الآخرين، وأداء حقوقهم عليه.(9)
وقد ورد في عبارات الفقهاء القدامى ما يمكن أن يكون إشارة لمعنى حقوق الإنسان في الاصطلاح، ومن ذلك قول الإمام القرافي: “الفرق الثاني والعشرون بين قاعدة حق الله تعالى، وقاعدة حقوق الآدميين، فحق الله تعالى أمره ونهيه، وحق العبد مصالحه”(10)، وعلق عليه شارح الفروق بقوله: “وإن أراد حقه على الجملة، أي الأمر الذي يستقيم به في أولاه وأخراه فمصالحه”(11).
إذن فحق العباد من وجهة نظر القرافي رحمه الله هي مصالح العباد ومنافعهم، التي قررها الشارع الحكيم لهم.
وقال العلامة سعد الدين التفتازاني: “الْمُرَادُ بِحَقِّ اللَّهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ بِأَحَد، فَيُنْسَبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِعِظَمِ خَطَرِهِ وَشُمُولِ نَفْعِهِ… وَمَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ”(12)، فيقرر التفتازاني أن حق الإنسان هو ما يتعلق به مصلحة خاصة، أي يعود نفعها له، فيمكن القول: إن الحق بالمعنى الاصطلاحي عنده هو ما يحقق مصلحة الإنسان ونفعه.
 وقد جاءت تعريفات علماء الشريعة المعاصرين للحق تأكيداً وترسيخاً لما ورد عند القدامى ممن ذكرتهم، فقد عرفه الشيخ علي الخفيف والدكتور يسري السيد بأنه: مصلحة مستحقة شرعاً(13).
وعرفه الأستاذ أحمد عيسوي بأنه : مصلحة ثابتة للشخص على سبيل الاختصاص والاستثناء يقررها المشرع الحكيم”(14).
ونلاحظ في هذين التعريفين تصريحاً بما قاله القدامى من أن الحق هو المصلحة والمنفعة الثابتة للإنسان بتقرير الشارع.

1/683، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام ص: 152، والفروق 2/161.
(9)  ينظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/82، ومنحة الخالق على البحر الرائق 5/49.
(10) الفروق ص (2/88).
(11) إدرار الشروق على أنواء الفروق، مطبوع مع الفروق ص (2/88).
(12) التلويح شرح التوضيح ص (3/470).
(13) الحق والذمة ص: (37)، وحقوق الإنسان في ضوء الكتاب والسنة ص (89).
(14) الحقوق والواجبات والعلاقات الدولية في الإسلام ص (13-14).

8 / 57
ولاشك أن المصلحة المقصودة في كلام العلماء ليست قاصرة على المصلحة المادية فحسب، بل تشمل المصلحة المعنوية أيضاً، كحق الأمن، وحق الحرية، وحق الكرامة، وحق المساواة والعدالة، وحق التملك، وحق العقد، وحق الشفعة، وحق النفقة، وحق النكاح، وحق الولاية، وحق الحضانة، وحق الطلاق وغيرها، ولهذا قال الدسوقي: “الحق جنس يتناول المال وغيره”(15).
فالفقهاء يطلقون كلمة “الحق” على كل ما يستحقه الإنسان ويثبت له شرعاً، سواء أكان حسياً أم معنوياً، مكتسباً أم أصلياً، مالياً أم غير مالي، عيناً أم ديناً، منفعة أم ولاية أم غيرها مما يملكه العبد أو كفله له الشرع، ويطلقونه أيضا على الحقوق العامة مما يباح الانتفاع به لعامة الناس على سبيل التساوي والاشتراك، كحق التنقل، وحق السير في الطريق العام، وحق الانتفاع بالمرافق العامة ونحوها.(16)
الوجه الثاني: جواب بالمنع، فلا نسلم بأن هذه الحقوق الإنسانية لم تذكر في الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة، فقد تواطأت النصوص الشرعية، وامتلأت كتب العلماء في شتى العلوم الشرعية بالحديث عن حقوق الله تعالى وحقوق عباده، وتقرير حقوق الوالدين، وحقوق الأولاد، وحقوق الأرحام، وحقوق الزوجين، وحقوق الجيران والأصحاب واليتامى والمساكين، وحقوق الفقراء والمحتاجين، وحقوق الأجراء والعمال والخدم، وحقوق الراعي والرعية، وحق المسلم على المسلم، وكذلك حق غير المسلم على المسلم، وغيرها.
لماذا الحديث عن حقوق الإنسان في الإسلام؟
سمعت من بعض المتحدثين عن حقوق الإنسان أن الشريعة الإسلامية لما كانت وحياً من عند الله العليم الخبير فإن الحديث عن تميزها وأفضليتها وسبقها وشمولها وكمالها في حفظ حقوق الإنسان أمر مسلَّم، لا ينبغي إطالة الحديث عنه، ويجب أن نركز على كيفية حفظ هذه الحقوق التي كفلتها الشريعة الإسلامية، ومعالجة الانتهاكات الكثيرة لحقوق الإنسان في المجتمعات والدول الإسلامية، وتجسير الفجوة بين النظرية والتطبيق في مجال حقوق الإنسان!!
ومع اتفاقي مع هذا الرأي في أهمية الالتزام بالشريعة الإسلامية في مجال حقوق الإنسان، وردم الهوة بين

(15) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/457، وينظر: الحق والذمة ص/ 36، وحقوق الاختراع والتأليف ص/22، والحقوق والواجبات والعلاقات الدولية في الإسلام ص (14).
(16) ينظر: الملكية في الشريعة الإسلامية لعلي الخفيف ص/9، وحقوق الاختراع والتأليف ص /18.

9 / 57
النظرية والتطبيق في هذا المجال، ومعالجة الانتهاكات المتعلقة بحقوق الإنسان على مستوى الأفراد والحكومات في الدول الإسلامية، إلا أني أرى أن الحاجة ماسة لتأصيل حقوق الإنسان في الإسلام وبيان الخصائص والفضائل التي تميزها عن بقية القوانين والاتفاقيات الوضعية المتعلقة بحقوق الإنسان، وذلك لثلاثة أسباب:
الأول: أن تأصيل حقوق الإنسان في الإسلام، وبيان مكانتها وأهميتها في الشريعة الإسلامية، والخصائص والمميزات التي تميز حقوق الإنسان في الإسلام عما عداها من القوانين والأنظمة البشرية هو الطريق الأمثل والأفضل والأسرع لمعالجة هذه الانتهاكات، وتحذير الناس منها، لأن تأصيل هذه الحقوق الإنسانية من الناحية الشرعية، وبيان تميز الشريعة الإسلامية وسبقها في هذا المجال من أعظم  ما يقنع المسلمين بها، ويدفعهم إلى احترامها، وتعظيم شأنها، وانقيادهم لها، والتزامهم بتطبيقها، لأنها مما أمر الله بها عباده، والتقرب بها إليه طاعة وعبادة، ولا أظن أحداً يجادل في أهمية التوعية والتثقيف لإيجاد قناعة ذاتية، ودافع نفسي يحمل صاحبه على التطبيق والالتزام، والبعد عن الانتهاك والإجرام، بل إن هذا أبلغ في دفع الناس إلى احترام حقوق الإنسان، والحذر من انتهاكها من مجرد سن القوانين والأنظمة، وترتيب العقوبات الدنيوية على انتهاكها أو التقصير فيها، والتي يمكن التحايل عليها، والإفلات منها في أحيان كثيرة.
وحال من يقلل من أهمية التوعية ونشر ثقافة حقوق الإنسان، والتأكيد على أنها من مقتضيات الإسلام، ومقاصده العظام، كمن يقلل من شأن التوعية بأهمية الصلاة والزكاة والذكر وقراءة القرآن وطلب العلم وبر الوالدين وصلة الأرحام، أو التحذير من الظلم والعدوان، والعصيان والإجرام، والتهاون في الصلاة والعقوق وقطيعة الأرحام، بحجة أنها معروفة مسلمة عند جميع المسلمين، بل هي من المعلوم من الدين بالضرورة، فلا حاجة لتأليف الكتب، وإلقاء الخطب، وتقديم البرامج الإعلامية، وعقد الندوات والمؤتمرات حولها، لأجل التأكيد على أهميتها والتذكير بحكم الشريعة فيها!! وما أظن عاقلاً يقبل بمثل هذا، كيف والله تعالى يقول: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِين)[الذاريات:55]، كما أن القرآن والسنة مليئان بالنصوص التي تذكر بحقوق الناس بعضهم على بعض، وبخاصة حقوق الوالدين، والأرحام، والجيران والأصحاب، والضعفاء والمساكين، وحق المسلم على أخيه المسلم.
فإذا كان التذكير والتوعية بهذه القضايا المعلومة من الدين بالضرورة مهماً ومؤثراً ودافعاً قوياً لامتثال الناس لها والتزامهم بها، فكيف بقضية يجهلها كثير من الناس، بل ويرى فئام كثيرون منهم أنها دخيلة على المسلمين، وليست من الدين في شيء، فالحاجة إلى التوعية بها، وبيان مكانتها من الإسلام أمر في غاية الأهمية، ولا تزال الكتابات المنشورة في هذا المجال قليلة مختصرة.
الثاني: لا يزال كثير من المسلمين يظنون أن حقوق الإنسان مصطلح غربي دخيل على المسلمين، ولا

10 / 57
أساس له في الإسلام، وبخاصة أن قضايا حقوق الإنسان أصبحت مسيسة خاضعة للمصالح الغربية، ووسيلة للضغط على المسلمين وابتزازهم باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، كما أن بعض المواثيق والصكوك الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان تتضمن مخالفات صريحة للشريعة الإسلامية، مما جعل كثيراً من المسلمين ينفرون من هذا المصطلح ويرفضونه، ويظنون بالمعنيين به ظن السوء، وربما اعتبروا هيئات حقوق الإنسان في الدول الإسلامية مجرد صدى لما تطالب به بعض الهيئات والمنظمات الدولية التي لا تريد بالإسلام والمسلمين خيراً، وأنها أبواق تسير في فلك أولئك الأعداء وتردد مقولاتهم، فكان لزاماً على طلاب العلم أن يبينوا أصالة هذه القضية، وأن هذا المصطلح وإن لم يكن معروفاً متداولاً بين المسلمين في السابق فإن جوهره ومضمونه هو الذي جاءت الشريعة الإسلامية بكل  أحكامها لحفظه وتحقيقه، وهو الذي يسميه العلماء بالمقاصد الشرعية، أو الضرورات الخمس، أو المصالح الكلية، والتي أجمعت الشرائع السماوية والعقلاء في كل مكان على وجوب حفظها وإقامتها، وحمايتها من كل اعتداء واقع أو متوقع عليها، فكل ما ذكر في المواثيق والمعاهدات الدولية من الحقوق الإنسانية المعتبرة داخل في هذه المصالح الخمس الكبرى وما يخدمها ويكملها من المصالح الحاجية والتحسينية، والتي هي المقصود الكلي من الشريعة الإسلامية.
ومن تأمل في جميع الوزرات والهيئات والدواوين الحكومية أدرك أنها إنما أقيمت لأجل حفظ حقوق الناس ومصالحهم الدينية والبدنية والعقلية والاجتماعية والاقتصادية، وهذه هي جماع حقوق الإنسان على اختلاف أنواعها ومسمياتها. وقد أجمع العلماء بل العقلاء في كل زمان ومكان على وجوب مبايعة إمام يسوس الناس ويقوم بمصالحهم، ويحكم بالعدل بينهم، وعلى وجوب إعانته عبر الوزارات والهيئات الحكومية المختلفة، ولولا السلطان لأكل الناس بعضهم بعضاً(17)، كما أجمع العلماء على أن تصرف الراعي على الرعية منوط بالمصلحة(18)، فهو معهم بمنزلة الوالد الناصح مع أولاده، وولي اليتيم مع اليتيم(19)، فواجب عليه وعلى نوابه في شتى الإدارات والهيئات أن يجتهدوا في حفظ مصالح الناس وحماية حقوقهم، ودفع المفاسد والشرور عنهم، وإقامة العدل بينهم، ومنعهم من التعادي والتظالم، والقطيعة والعقوق ومطل الحقوق.

(17) الرسائل للجاحظ 1/172.
(18) ينظر في تقرير هذه القاعدة: قواعد الأحكام ص: 510، والفروق للقرافي 4/95، والمنثور في القواعد ص: 309، والأشباه والنظائر للسيوطي ص: 121، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص: 123، ومجمع الضمانات 2/821، وشرح القواعد الفقهية للزرقاء ص: 309.
(19) قال الإمام الشافعي رحمه الله: “منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي من اليتيم”. المنثور في القواعد ص: 309، والأشباه والنظائر للسيوطي ص: 121.

11 / 57
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: “كلكم راع، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ, وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ, أَلا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه”(20).
واستغلال هذا المصطلح من جانب بعض قوى الاستكبار العالمي وتوظيفه لمصالحهم الخاصة لا يعني رفضه أو إنكاره من أساسه، بل هو من الحق الذي يجب إقراره والدفاع عنه، وهو من المصالح الضرورية المقصودة للشارع من تشريع الأحكام، والتي تتوقف عليها سعادة الإنسان، وتحقيق السلم والأمن في العالم، وقد أوجب الله علينا أن نجتهد في تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية في هذا المجال وغيره، وأن نتعاون مع بقية العالم في حفظ المصالح الإنسانية المعتبرة شرعاً وعقلاً، وإصلاح الخلل الموجود في بعض تلك المواثيق والصكوك الدولية، وأن نكون خير الناس للناس، وأرحم الخلق بالخلق، وأنصح البشر للبشر، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه)[آل عمران:110]، فهو لم يقل: كنتم خير أمة أخرجت للعرب أو للمسلمين فحسب، بل لكل الناس من عرب وعجم، ومسلمين وغير مسلمين. وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: “الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”(21)، فأمرنا بالرحمة بكل من في الأرض من قريبين وبعيدين، ومسلمين وغير مسلمين، ومن نعرف ومن لا نعرف.
الثالث: يظن كثير من الغربيين أنهم هم الرواد في مجال تقرير الحقوق الإنسانية والمطالبة بحفظها، وأن المسلمين لا يعرفون هذه الحقوق ولا يحترمونها، ولم يكن لهم علم بها إلا حين صدرها الغرب إليهم وطالبهم بالمحافظة عليها!!
كما أنه يوجد في البلاد الإسلامية على مستوى الأفراد والحكومات ممارسات خاطئة، وانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان المشروعة، وخاصة حقوق المرأة، مما جعل كثيراً من غير المسلمين في الغرب والشرق يظنون بالإسلام ظن السوء، ويعتقدون أن تعاليمه هي التي تكرس هذه الممارسات الخاطئة، والانتهاكات الظالمة، فنسبوا أخطاء بعض المسلمين وتجاوزاتهم إلى دينهم وشريعتهم، والإسلام منها براء، فكان لزاماً علينا أن نبين المنهج الشرعي في حفظ حقوق الإنسان، وأن الإسلام كان أسبق إلى حفظ هذه الحقوق وحمايتها على أكمل وجه وأحسنه وأشمله وأحفظه لمصالح العباد في المعاش والمعاد، وأن تلك المظالم والممارسات الخاطئة

(20) أخرجه البخاري (893)، ومسلم (4728)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(21) أخرجه أبو داود (4941) والترمذي (1924) وأحمد (2 / 160) والحاكم (4 / 159) وصححه، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

12 / 57
مخالفات شرعية ظاهرة، لا يقرها الإسلام، ولا يجوز أن تنسب إليه وإن كان المرتكب لها من المسلمين. ومن هنا يتبين أهمية تأصيل حقوق المرأة في الإسلام.(22)
ولا خلاف بين المسلمين والمنصفين العارفين بحقائق الإسلام أن المرأة لم تحفظ كرامتها وتصان حقوقها كما حفظت في الشرائع السماوية، وخاصة في ظل الشريعة الإسلامية الخاتمة التي هي أكمل الشرائع وأفضلها، وأبرها وأعدلها، وأرعاها لحقوق الله تعالى وحقوق عباده.
فحقوق الإنسان في الإسلام قطعية ثابتة لا تقبل التغيير والتبديل، أو الإلغاء والتعطيل، فهي من ثوابت الشريعة، ومسلمات الدين، ومصدرها من الله، الذي لا يظلم أحداً، ولا يحابي أحداً على حساب أحد، فلا محاباة فيها لفرد، ولا لطبقة، ولا لجنس، ولا لشعب، ولا لجيل دون جيل، لأن الله هو رب الجميع، والخلق كلهم عباده، وقد أنزل عليهم شريعته، لحفظ حقوقهم وتحقيق مصالحهم، وهدايتهم لما فيه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم.
فهي حقوق قائمة على العدل والمصلحة، والحكمة والرحمة، وسالمة من جهل الإنسان، وهوى الإنسان، وضعف الإنسان، وتقلبات الإنسان، وهذا هو الذي يضمن لها الاحترام والقبول، والعموم والشمول، والتوازن والاعتدال، وألا تطغى مصلحة على أخرى، أو تعتدي مجموعة من البشر على المجموعات الأخرى، بخلاف الاتفاقيات والصكوك الوضعية المتعلقة بحقوق الإنسان، التي تخضع لاجتهادات البشر وأمزجتهم، وتتأثر بمؤثرات البيئة والأوساط المحيطة، وتتغير بتغير مراكز القوى وصراع المصالح الشخصية والحزبية والقومية، والتباينات الفكرية والثقافية، فليس لهذه القوانين الوضعية ما للأحكام الشرعية من العصمة والقدسية، والاحترام والتقدير، بل هي وثائق بشرية قابلة للتغيير والتعديل، غير مستعصية على الإلغاء والتعطيل، مهما جرى تحصينها بالوثائق والنصوص القانونية، وها هي القيود التي فرضوها على دساتير دولهم لم تحمها من التعديل أو الإلغاء بالأغلبية. أما الدستور الإسلامي المستمد من الكتاب والسنة فإنه معصوم من الخطأ والزلل، سالم من التناقض والاضطراب، قائم على العدل مع كل أحد، وفي كل حال، وصالح لكل زمان ومكان، محفوظ بحفظ الله له إلى قيام الساعة، قال الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون)[الحجر:9] (23).
قال الباحث الأمريكي دوغلاس ماك آرثر: “لو أحسن عرض الإسلام على الناس لأمكن به حلّ كل المشكلات، ولأمكن تلبية الحاجات الاجتماعية والروحية والسياسية للذين يعيشون في ظل الرأسمالية والشيوعية على السواء،  فقد فشل هذان النظامان في حلّ مشكلات الإنسان، أما الإسلام فسوف يقدم السلام للأشقياء، والأمل والهدى للحيارى والضالين. وهكذا فالإسلام لديه أعظم الإمكانات

(22) ينظر كتابي “خصائص حقوق الإنسان في الإسلام” تحت الطبع، ص: 4ـ7.
(23) ينظر كتابي “خصائص حقوق الإنسان في الإسلام” تحت الطبع، ص: 24.

13 / 57
لتحديث هذا العالم وتعبئة طاقات الإنسان لتحقيق أعلى مستوى من الإنتاج والكفاية”(24).
ولكن ماذا عن الانتهاكات الواقعة على المرأة في السعودية؟
ومع تسليمنا بأن الشريعة الإسلامية والأنظمة السعودية المستمدة منها حفظت حقوق الإنسان عموماً، و المرأة خصوصاً على أكمل وجه وأحسنه وأعدله، فإنه لا يستطيع أحد يعرف واقع المرأة في السعودية أن ينكر وجود انتهاكات متنوعة لحقوق المرأة فيها، وهي انتهاكات مخالفة للشريعة الإسلامية، ولمواثيق حقوق الإنسان الدولية العادلة. فلا يستطيع أحد أن يزعم بأن حقوق المرأة مصونة محترمة عند كل أحد، وفي كل الأحوال، وعلى جميع الأصعدة.
والسؤال الذي ينبغي طرحه هنا: هل الأنظمة السعودية تبيح هذه الانتهاكات وتقرها، أو تساهم في تكريسها وتوسيع دائرتها؟
وجوابي عن ذلك: أنه من خلال اهتمامي بحقوق الإنسان، واطلاعي على الأنظمة السعودية وقراءتي لكثير مما كتب عن حقوق المرأة في هذه الأنظمة من داخل المملكة وخارجها، ومن كتاب مسلمين وغير مسلمين، فإني أجزم بكل ثقة: بأن هذه الأنظمة المستمدة في الأصل من الكتاب والسنة أحرص ما تكون على حفظ حقوق المرأة وصيانة كرامتها، والدفاع عن مصالحها، ولا يكاد يوجد فيها شيء يقصد به ظلم المرأة أو انتهاك حقوقها.
وما قد يوجد في هذه الأنظمة مما يعتقد أنه مخالف لحقوق الإنسان المعتبرة فهو لا يخلو إما أن يكون من القضايا الاجتهادية التي تختلف فيها وجهات النظر، وإما أن يكون من القضايا التي تتغير بتغير الأحوال والعوائد، فتكون صالحة عادلة في زمان، ولا تكون كذلك عند تغير الأحوال والأزمان، فهي في الحالتين قضايا قابلة للنقاش وإعادة النظر فيها لتعديلها واستبدالها بما هو أوفق للشريعة ومقاصدها، وأحفظ لحقوق المرأة وأصون لمصالحها.
وبناءً عليه فإن ما قد يحصل من انتهاكات وعدوان على مصالح المرأة في السعودية، أو مطل بحقوقها فإنما مرده في الغالب لثلاثة أمور:
الأول: انتهاكات يمارسها بعض الناس وهي مخالفة للشريعة الإسلامية وللأنظمة السعودية المرعية، المبنية على الرحمة والحكمة، والعدل والمصلحة، وحفظ مصالح الإنسان وحقوقه الشرعية، فهي انتهاكات محرمة شرعاً ونظاماً، وصاحبها عرضة للمسائلة والمعاقبة، ومن انتُهك حقُها من هؤلاء النساء فبإمكانها المطالبة به من خلال جهات الاختصاص المسؤولة عن تطبيق هذه الأنظمة.

(24) قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل ص: 434.

14 / 57
الثاني: انتهاكات سببها والمشجع عليها التقصير في ترجمة هذه الأنظمة إلى واقع عملي يحفظ حقوق المرأة ويسهل عليها التعاطي معه، وذلك بوضع خطط تنفيذية واضحة وسهلة التنفيذ، بحيث تمنع انتهاك حقوق المرأة أصلاً، فإن انتهك حقها كان بإمكانها الحصول عليه بيسر وسهولة، فلا يزال هناك بعض الإشكالات في الآليات والإجراءات التنفيذية لهذه الأنظمة السعودية؛ من قبيل فرض بعض الشروط والمتطلبات المكلفة، أو عدم تهيئة الأماكن والمرافق المناسبة للمرأة لحمايتها وإيوائها، ودفع العدوان الواقع أو المتوقع عليها، أو تمكينها من المطالبة بحقها ومقاضاة من تعدى على مصالحها، أو عدم الحسم في القضايا التي تتطلب معالجة عاجلة، واستدراكاً لما يُخشى فواته، أو قطعاً لما يخاف من تفاقمه واستفحاله، أو الروتين القاتل والتطويل الممل الذي يجعل كثيراً ممن انتهكت حقوقهن يتهيبن من المطالبة بها أو يتنازلن عنها أو عن بعضها لأجل توفير الوقت والجهد. فالخلل ليس في الأنظمة والتشريعات، وإنما هو خلل في الآليات والإجراءات.
الثالث: التقصير في نشر ثقافة حقوق الإنسان، وعدم تثقيف المجتمع والمرأة معاً وتوعيتهم بحقوقها المشروعة، وكيفية المطالبة بها؛ فجهل المرأة بحقوقها، وعدم معرفتها بكيفية المطالبة بها، وثقافة العيب التي تكرسها بعض المجتمعات لكي تمنع المرأة من المطالبة بحقوقها، وتقنعها بالسكوت على ظلمها وابتزازها، كلها تسهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في انتهاك مصالح بعض النساء، وضياع حقوقهن، وبخسهن أشياءهن.

15 / 57