12 ربيع أولI, 1446
عرض القرآن في سورة الكهف قصة ذي القرنين مع قوم كانوا يعيشون في جوار قبيلتي يأجوج ومأجوج. غير أن هؤلاء القوم كانوا مستسلمين لواقعهم البائس، فقد كانوا ينظرون لقبيلتي يأجوج مأجوج نظرة كلها شعور بالعجز معهم.
يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٩٢) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا (٩٣) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤)﴾ [الكهف ٩٢-٩٤]
الله تعالى وحده يعلم كم مضى على معاناتهم وخوفهم، ولم يفكروا في ضرورة العمل للتحرر من هذا الخوف والرعب الذي تشكله عليهم قبيلتا يأجوج ومأجوج. وبهذا عندما جاء ذو القرنين وجدوها فرصة لا تعوض، سيكون هو المُخلّص لهم مما هم فيه.
لكن انظر كيف تعاملوا مع الموقف: [فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا]، فهذا موقف عجيب وغريب، فقد كان المتوقع أن يطلبوا من ذي القرنين مساعدتهم في دفع شر يأجوج ومأجوج، ويكونون هم المنفذّون لخطة ذي القرنين، لكن المفارقة أنهم عرضوا عليه أن يقوم هو وجيشه ومهندسوه وخبراؤه بالمهمة، أما هم فيكتفون بدفع المال فقط!!!
فالقول يعرفون إذن كيف يكونون بمنأى عن شر يأجوج ومأجوج وإفسادهم، لكنهم مستسلمون للكسل والعجز، ولهذا قرروا أن يدفعوا المال لذي القرنين لكي يقوم هو بدلا عنهم بالمهمة..
هل تتخيل هذا؟! قوم يتجرعون كؤوس الذل والهوان، والخوف والرعب، لا لأنهم فقراء فسيدفعون المال لذي القرنين، ولا لأنهم لا يهتدون لطريقة لوقف شر يأجوج ومأجوج فسيقترحون بناء سد عظيم، فلماذا إذن كان موقفهم على هذا النحو المخزي؟
الجواب هو لأنهم جبناء، أذلاّء، كسالى، يحبون أن يعيشوا ولا يهم كيف تكون هذه الحياة التي يعيشونها، وحتى مصدر الخوف والرعب، الذي يهدد حياتهم وكرامتهم وحريتهم لن يتحركوا ضده بأي شيء، بل كأنهم كانوا ينتظرون من يفعل ذلك بدلا عنها.
وهذه هي قصة الشعوب الذليلة، المهينة، التي تطبعت نفسيتها مع الذل والهوان وحب الحياة أي حياة!!
لكن موقف ذي القرنين وتصرفه معهم له دلالة عجيبة، فهو قبل عرضهم لكن بشرط، وهو أن يقوموا هم أنفسهم بالعمل معه وتنفيذ الخطة: ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (٩٦)﴾
“فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ”، “آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ”، “قَالَ انْفُخُوا” = هذه الكلمات ترسم لنا صورة الوظيفة التي كلف بها ذو القرنين هؤلاء الناس. وكما ترى، فهذه الأفعال والممارسات تعني أن هؤلاء القوم هم في أنفسهم كانوا قادرين على الفعل، والتحرك، ومدافعة يأجوج ومأجوج وصد شرهم وفسادهم وإرهابهم، لكنهم كانت نفسياتهم قد تشكلت في قوالب الخوف والجبن والذل والهوان وحب الدنيا وكراهية الموت.
ثم، عندما جاء ذو القرنين أدرك هذه الحقيقة.. حقيقة أن القوم قادرون على صناعة التغيير والتحرير، ولكنهم فقط ممتلئون خوفا ورعبا وذلا وهوانا، فقام ينفض عنهم هذه الأوهام التي جعلتهم أسارى وسجناء ذلك كله قبل أن يقدم عليهم، ومن هنا طالبهم بالتحرك والفعل، وكان هو نفسه، رغم أنه قائد عظيم، في مقدمة صف صناعة التحرير والتغيير والحدث الذي سيغير حياتهم وتاريخهم إلى الأبد: ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (٩٦)﴾
فقوله “أَعِينُونِي”، “آتُونِي”، “انْفُخُوا”، “آتُونِي أُفْرِغْ” = هذه كلها كلمات تدل على أن ذا القرنين كان في ساحة الحدث، وكان يتابع بنفسه العمل، يأمر ويوجّه ويحث، بل ويعمل بنفسه. وهذا ليس عجيباً من ذي القرنين، فهؤلاء هم القادة العظماء دائما، هكذا يتصرفون، يكونون في مقدمة الصفوف، لوعيهم أن رؤية الشعب لهم في المقدمة ينفخ فيهم روح التحدي، وقوة العمل، ورغبة التغيير، والصبر على الجهد، والتضحية بكل شيء. وبسبب هذا التعاون بين ذي القرنين القائد العظيم، وهذا الشعب الكسول الذي نفخ فيه روح القوة والعظمة والرجولة والحياة الحقيقية، كانت النتائج بإذن الله مبهرة: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (٩٧)﴾، أي إن السد العظيم كان من القوة والمتانة التي أعجزت يأجوج ومأجوج عن خرقه وهدمه رغم قوتهم المرعبة، وبطشهم الشديد »»»