15 جمادي أول, 1447

التحذير من الاسراف في الولائم 1446التَّحْذِيرُ مِنَ الْإِسْرافِ وَالتَّبْذِيرِ فِي الْوَلائِمِ

﴿الخُطْبَةُ الأُوْلَى﴾

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنا وَمِنْ سَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ كَمَا أَمَرَكُمْ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]؛ وَاعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ ، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثُاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ، وَعَلَيْكُمْ بِالجَماعَةِ، فَإِنَّ يَدَ اللهِ عَلَى الجَماعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ.

عِبادَ اللهِ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدانا لِلْإِسْلامِ، وَعَلَّمَنا الْقَصْدَ وَالِاعْتِدالَ، وَنَهانا عَنِ الْإِسْرافِ وَالتَّبْذِيرِ، وَنَظَّمَ لَنا كُلَّ أُمُورِ مَعاشِنا وَمَعادِنا؛ ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف: 96].

فَما مِنْ خَيْرٍ إِلَّا فِي اتِّباعِ هَذا الشَّرْعِ المطَهَّرِ، وَما مِنْ نَقْصٍ وَلَا ضُرٍّ إِلَّا بِسَبِبِ مُخالَفَةِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ما نَظَّمَتْهُ الشَّرِيعَةُ ما يَتَعَلَّقُ بِالنَّفَقاتِ، وولائم الأعراس والمناسبات، فَإِنَّ النَّاسَ فِيها بَيْنِ مُكْثِرٍ وَمُقِلٍّ، فَجاءَتِ الشَّرِيعَةُ لِتَضْبِطَ هَذا الْأَمْرُ، وَتُصَحِّحَ مَسالِكَ خاطِئَةٍ، وَتَصَوُّراتٍ مُضِرَّةٍ بِالْأَفْرادِ وَالمجْتَمَعاتِ، فَالمالُ قِوامُ الْحَياةِ وَعَصَبُها، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ لَيْسَ بِالْأَهْواءِ وَلا بِالِاجْتِهاداتِ، وَلَكِنَّهُ مُنْضَبِطٌ بِمَعايِيرَ وَضَوابِطَ وَقَواعِدَ شَرْعِيَّةٍ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ أَنْ يُخالِفَها، فَهَذِهِ الْأُسُسُ وَالْقَواعِدُ تُنَظِّمُ مَعايِشَ النَّاسِ، وَتَمْنَعُ ظُلْمَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَإِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ قَدْ تَكَفَّلَ جَلَّ وَعَلا بِأَرْزاقِ الْعِبادِ، وَالْآياتُ الَّتِي تَضْبِطُ الْبَذْلَ وَالْإِمْساكَ كَثِيرَةٌ؛ مِنْها قَوْلُهُ تَعالَى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].

فَالْإِسْرافُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظاهِرِ الْإِفْسادِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى اخْتِلالِ المعايِيرِ، وَالْعَوْدِ بِالضَّرَرِ عَلَى الْإِنْسانِ، قالَ تَعالَى مُحَذِّرًا مِنَ التَّبْذِيرِ وَالْإِسْرافِ: ﴿إِنَّ ‌ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ﴾ [الإسراء: 27]، وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أَنَّ النَّبِيَّ  قالَ: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا، في غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلَا سَرَفٍ؛ فَإِنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلا يُحِبُّ أَنْ تُرَى نِعْمَتُهُ عَلَى عَبْدِهِ» [حديث حسن، أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه والامام أحمد].

قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: “كُلْ ما شِئْتَ، وَالْبَسْ ما شِئْتَ، ما أَخْطَأَتْكَ اثْنَتانِ: سَرَفٌ وَمَخِيلَةٌ”.

عِبادَ اللهِ: قَدْ أَحَلَّ اللهُ لَنا الْأَكْلَ مِنَ الطَّيِّباتِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْنا مِنَ النِّعَمِ؛ فَوَجَبَ عَلَيْنا شُكْرُها، وَشُكْرُها يَكُونُ بِحِفْظِها، وَعَدَمِ التَّبْذِيرِ فِيها، وَصَرْفِها فِي طاعَةِ اللهِ؛ قالَ تَعالَى: ﴿وَإِذۡ ‌تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7]، وَقالَ تَعالَى: ﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا قَرۡيَةً كَانَتۡ ءَامِنَةً مُّطۡمَئِنَّةً يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ ‌لِبَاسَ ‌ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ﴾ [النحل: 112]

لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ فِي المناسَباتِ وَالْوَلائِمِ، يُبالِغُونَ فِيما يُقَدَّمُ مِنْ طَعامٍ وَشَرابٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَنْحَرُ مِنْ أَنْواعِ النَّعَمِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ الْعَدَدَ الْكَبِيرَ، وَهَذَا خِلافُ ما أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ المطَهَّرُ، وَيُخْشَى أَنْ يَكُونَ الْحامِلُ عَلَى فِعْلِ هَذا الْكِبْرُ وَالْعُجْبُ بِالنَّفْسِ، وَحُبُّ الرِّياءِ وَالْمَظاهِرِ، وَالتَّمَدُّحُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ.

وَلا يَخْفَى عَلَيْكُمْ -رَحِمَكُمُ اللهُ- ما لِلْإِسْرافِ وَالتَّبْذِيرِ مِنْ أَضْرارٍ وَمَفاسِدَ، لَيْسَ عَلَى مُسْتَوَى الْفَرْدِ، بَلْ عَلَى مُسْتَوَى المجْتَمَعِ، وَالْأَجْيالِ الْقَادِمَةِ، فَإِنَّ لِلْإِسْرافِ أَضْرارًا دِينِيَّةً وَاقْتِصادِيَّةً وَاجْتِماعِيَّةً؛ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمُخالَفَةٌ لِسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ؛ فَقَدْ كانَ أَكْرَمَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ إِسْرافٍ، وَكانَ ﷺ يَأْمُرُ بِالْقَصْدِ وَالِاعْتِدالِ، كَمَا أَنَّ الْإِسْرافَ يُؤْذِنُ بِزَوالِ النِّعْمَةِ، وَمَنْ يُبَذِّرْ وَيُسْرِفْ يَكُونُ أَخًا لِلشَّيْطانِ! أَيُّ مَنْزِلَةٍ، وَأَيُّ خُسْرانٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذا؟ وَالْإِسْرافُ هَدْرٌ لِلْمالِ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ، وَسَبَبٌ لِكَثْرَةِ الدُّيُونِ فِي غَيْرِ طائِلٍ، وَفِي الْبَذَخِ كَسْرٌ لِقُلُوبِ الْفُقَراءِ وَالمساكِينِ، الَّذِينَ يُشاهِدُونَ هَذِهِ الْمَأْدُباتِ، وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ المسْرِفِينَ فِي الْوَلائِمِ يَشْتَرُونَ مَدِيحَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ.

عِبادَ اللهِ: هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ هِيَ امْتِنانٌ مِنْ رَبِّنا جَلَّ وَعَلا بِما وَسَّعَ عَلَى عِبادِهِ، فَأَحَلَّ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَأْكُلُوا وَأَنْ يَشْرَبُوا ما لَمْ يَكُنْ سَرَفًا أَوْ مَخِيلَةً، فَهُوَ أَمْرٌ لِلْإِباحَةِ لَمَّا كانُوا فِي الجاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ ما يُحَرِّمُونَ؛ كَما دَلَّتْ عَلَيْها الْآيَةُ بَعْدَها: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف: 32].

أَيُّها المؤْمِنونَ: إِنَّ الْمُتَعَيَّنَ عَلَى المسْلِمِ أَنْ يَتَوَسَّطَ فِي الْإِنْفاقِ، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَّزِنًا، بِلَا إِفْراطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَلَا تَجْعَلْنا مِنَ المسْرِفِينَ، وَلَا مِمَّنْ بَدَّلُوا نِعْمَتَكَ كُفْرًا، وَبارِكْ لَنا فِي أَرْزاقِنا، وَأَصْلِحْ نِيَّاتِنا، وَوَفِّقْنا لِمَرْضاتِكَ.

أَقُولُ ما تَسْمَعُونَ. وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي، وَلَكُمْ، وَلِسَائِرِ المُسْلِمينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.