15 جمادي أول, 1447
الذَّكاءُ الِاصْطِناعِيُّ بَيْنَ النِّعْمَةِ وَالنِّقْمَةِ 30/ 1/ 1447هـ
﴿الخُطْبَةُ الأُوْلَى﴾
الحمدُ للهِ الَّذِي لَهُ المحامِدُ كُلُّها، مَنْ ذا يُحِيطُ بِحمْدِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ، فالْفَضْلُ كُلُّ الْفَضْلِ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، سَقانا اللهُ مِنْ حَوْضِهِ وَوِرْدِهِ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ، وَصَحابَتِهِ الْغُرِّ الْمَيامِينَ، وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ فالْحِرْزُ الْمَكِينُ، وَالْحَبْلُ المتِينُ تَقْوَى رَبِّ العالَمِينَ؛ فَاتَّقُوهُ حَقَّ تُقاتِهِ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ، وَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِهِ.
أَيُّها الموَحِّدُونَ: ﴿أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَأَسۡبَغَ عَلَيۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةٗ وَبَاطِنَةٗۗ﴾[لقمان: 20]. فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْنا بِنِعَمٍ لا تُعَدُّ وَلا تُحْصَى، مِنْ أَجَلِّها نِعْمَةُ الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ، وَتَسْخِيرُ المخْلُوقاتِ لِخِدْمَةِ الْإِنْسانِ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّقْنِياتُ الْحَدِيثَةُ فِيْمَا يُسَمَّى بِالذَّكَاءِ الاِصْطِنَاعِيُّ، وَهُوَ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ عُلُومِ الْحَاسُوبِ، يُحاكِي الذَّكَاءِ الْبَشَرِيِّ، يَجَعَلِ لِلْآلَاتِ قُدْرَةً عَلَى أَدَاءِ مَهَامَّ مِثْلِ: التَّفْكِيرِ وَالتَّعْلِيمِ، وَالتَّعَرُّفِ عَلَى الْأَشْكَالِ وَالْأَنْمَاطِ، وَمُعَالَجَةِ الْمَعْلُومَاتِ، وَالْاِسْتِنْتَاجِ، وَاتِّخَاذِ الْقَرَارَاتِ، وَحَلِّ المشْكِلاتِ بِنَاءً عَلَى الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي تُخَزَّنُ فِيهَا، وبِطُرُقٍ مُشَابِهَةٍ لِلْإِنْسَانِ، وَهُوَ سِلَاحٌ ذُو حَدَّيْنِ، كَغَيْرِهِ مِنَ الْوَسَائِلِ الْحَدِيثَةِ؛ إِنِ اسْتُخْدِمَ فِي الْخَيْرِ وَالنَّهْضَةِ وَالْبِنَاءِ وَالْعِلْمِ، كَانَ نِعْمَةً عَظِيمَةً لِلْبَشَرِيَّةِ وَمِنَّةً، وَإِنِ اسْتُخْدِمَ فِي الشَّرِّ وَالْبَطَرِ وَالْهَدْمِ، كَانَ نِقْمَةً عَلَيْهِمْ وَبَلَاءً وَفِتْنَةً.
عِبادَ اللهِ: إِنَّ مِنْ شُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ تَعالَى أَنْ نَسْتَخْدِمَ هَذِهِ الْوَسائِلَ فِيْما يُرْضِيهِ سُبْحانَهُ، وَبِهِ يَخْدُمُ المسْلِمُ دِينَهُ وَدُنْياهُ، وَالْبَشَرِيَّةَ كُلَّها، وَمِنَ المحَرَّمِ شَرْعًا اِسْتِعْمالُ هَذِهِ التَّقْنِياتِ وَوَسائِلِ التَّواصُلِ الِاجْتِماعِيِّ فِيْما حَرَّمَهُ اللهُ وَنَهَى عَنْهُ مِنَ الْكَذِبِ وَالْبُهْتانِ وَالِافْتِراءِ وَالتَّزْوِيرِ، وَمُحاوَلَةِ التَّشْغِيبِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ لِلتَّشْكِيكِ فِي الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ، وَصِدْقِ هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَغَلَّ الذَّكَاءَ الْاِصْطِنَاعِيَّ فِي التَّجَسُّسِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمُحَاكَاةِ أَصْوَاتِ الْعُلَمَاءِ لِزَعْزَعَةِ مَكَانَتِهِمْ، أَوْ تَمْريرِ مَعْلُومَاتٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَرُبَّمَا نَشَرُوا إِشَاعَاتٍ عَنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَدَعَّمُوهَا بِمَقَاطِعَ صَوْتِيَّةٍ وَمَرْئِيَّةٍ مُلَفَّقَةٍ، وَصُورٍ كَاذِبَةٍ.
وَإِنَّ مِنْ مَسْؤُولِيَّةِ المسْلِمِ التَّثَبُّتَ وَالتَّبَيُّنَ مِنَ الْأَخْبارِ قَبْلَ النَّشْرِ، وَعَدَمَ الِانْسِياقِ وَالتَّصْدِيقِ لِكُلِّ ما يُنْشَرُ فِي وَسائِلِ التَّقْنِياتِ الْحَدِيثَةِ، قالَ صلى الله عليه وسلم: «كَفَى بِالمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ ما سَمِعَ» [أخرجه مسلم].
أَيُّها المسْلِمُونَ: إِنَّ عَواقِبَ نَشْرِ الْكَذِبِ وَالْبُهْتانِ وَخِيمَةٌ عَلَى المجْتَمَعاتِ وَالْأَفْرادِ، قالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ؛ أَسْكَنَهُ اللهُ رَدْغَةَ الْخَبالِ، حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قالَ»، وَرَدْغَةُ الْخَبالِ: عُصارَةُ أَهْلِ النَّارِ. [صحيح أخرجه أحمد والحاكم والبيهقي]، أَعاذَنا اللهُ جَمِيعًا مِنْ عَذابِ النَّارِ.
فَاتَّقُوا اللهَ –أَيُّها المؤْمِنُونَ– فِي اِسْتِخْدامِ هَذِهِ الْوَسائِلِ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَداةً فِي نَشْرِ الْباطِلِ، أَوْ وَسِيلَةً فِي ظُلْمِ أَحَدٍ، أَوْ تَشْوِيهِ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ.
اللَّهُمَّ احْفَظْ عَلَيْنا أَمْنَنا وَوَطَنَنا، وَأَصْلِحْ قُلُوبَنَا، وَاغْفِرْ ذُنُوبَنَا، وَاسْتُرْ عُيُوبَنَا، وَحَسِّنْ أَخْلَاقَنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعِ المسْلِمِينَ.
بارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْكِتابِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنا بِما فِيهِما مِنَ الْآياتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
﴿الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ﴾
الْحَمْدُ لِلهِ وَفَّقَ مَنْ شَاءَ لِمَكارِمِ الْأَخْلاقِ، وَهَدَاهُمْ لِمَا فِيهِ فَلَاحُهُمْ يَوْمَ التَّلاقِ، الْحَمْدُ للهِ عَزِيزِ الشَّأْنِ، عَظِيمِ السُّلْطانِ، لَا يَقَعُ فِي الْكَوْنِ حادِثٌ إِلَّا بِعِلْمِهِ، وَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ قَدَرِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبارَكَ عَلَيْه وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ عِبَادَ اللَّهِ: فَإِنَّ التَّقْوَى أَجْمَلُ لِباسٍ، وَأَعْظَمُ مِقْياسٍ؛ فَاجْعَلُوها لَكُمْ شِعارًا وَدِثارًا.
عِبادَ اللهِ: إنّ مِنْ أَمانَةِ الْكَلِمَةِ، وَعِظَمِ مَسْؤُولِيَّةِ النَّشْرِ فِي هَذَا الزَّمانِ: أَنْ يَتَثَبَّتَ المسْلِمُ قَبْلَ أَنْ يُحَدِّثَ، أَوْ يَنْقِلَ، أَوْ يُعِيدَ إِرْسالَ ما يَقْرَؤُهُ أَوْ يَسْمَعُهُ، وَأَنْ يَتَحَرَّى الصِّدْقَ وَالْعَدْلَ، وَلا يَكُونَ إِمَّعَةً يَنْقِلُ كُلَّ ما تَقَعُ عَلَيْهِ عَيْنُهُ، فَإِنَّ الْكَذِبَ جَرِيمَةٌ، وَالْبُهْتانَ طامَّةٌ، وَاللهُ سائِلٌ كُلَّ عَبْدٍ عَمَّا قالَ أَوْ نَشَرَ؛ فاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ- وَكُونُوا حُرَّاسًا لِلْحَقِّ، وَأُمَناءَ عَلَى الْكَلِمَةِ، وَلا تَكُونُوا أَداةً لِإِضْلالِ الْخَلْقِ، فَإِنَّ اللهَ لا تَخْفَى عَلَيْهِ خافِيَةٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَسَيَجْزِي كُلَّ امْرِئٍ بِما قالَ أَوْ كَتَبَ أَوْ نَشَرَ، قالَ تَعالَى: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]. وَالمؤْمِنُ لا تُعْمِيْهِ زَخارِفُ الدُّنْيا عَنِ الْحَقِّ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الذَّكاءَ الِاصْطِناعِيَّ وَما تَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ الْبَشَرِيَّةُ مِنْ تَقَدُّمٍ وَرُقِيٍّ إِنَّما هُوَ بَعْضُ قُدْرَةِ اللهِ، وَفِي مُلْكِ اللهِ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ، وَنِعْمَةٌ مِنَ اللهِ يَجِبُ تَسْخِيرُها لِلْخَيْرِ وَالنَّفْعِ، وَنَشْرِ الْعِلْمِ وَتَبْصِيرِ النَّاسِ بِالشَّرْعِ، وَقَدْ تَكُونُ فِتْنَةً وَوَبالًا لِبَعْضِ خَلْقِ اللهِ عِياذًا بِاللهِ تَعالَى.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ عز وجل: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56] اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عن الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلامَ وَالمسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالمشْرِكِينَ، وَدَمِّرْ أَعْداءَ الدِّينِ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ وَاغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَوْدِعُكَ إِخْوانَنا فِي غَزَّةَ، فَاحْفَظْهُمْ بِعَيْنِكَ الَّتِي لا تَنامُ، وَاحْرُسْهُمْ بِرُكْنِكَ الَّذِي لا يُرامُ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ جِياعٌ فَأَطْعِمْهُمْ، وَظَمْأَى فَاسْقِهِمْ، وَحُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ، وَعُراةٌ فَاكْسُهُمْ، وَمَكْلُومُونَ فَاجْبُرْهُمْ، وَخائِفُونَ فَأَمِّنْهُمْ، اللَّهُمَّ ارْبِطْ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَثَبِّتْ أَقْدَامَهُمْ، وَانْصُرْهُمْ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ، اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَانْصُرْ جُنُودَنَا، وَأَيِّدْ بِالْحَقِّ إِمَامَنَا وَوَلِيَّ أَمْرِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى. اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى المرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالمينَ.