16 رمضان, 1446

*بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ*

تفسير سورة الفجر .

*لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 1 ) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 2 ) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ( 3 ) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ( 4 ) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ( 5 ) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا ( 6 ) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ( 7 ) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ( 8 ) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ( 9 ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ( 10 ) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( 11 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ( 12 ) فَكُّ رَقَبَةٍ ( 13 ) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ( 14 ) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ( 15 ) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ( 16 ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ( 17 ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( 18 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ( 19 ) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ*

( 20 ) .

 

يقسم تعالى

*بِهَذَا الْبَلَدِ*

الأمين ، الذي هو مكة المكرمة ، أفضل البلدان على الإطلاق ، خصوصًا وقت حلول الرسول صلى الله عليه وسلم فيها .

*وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ*

أي : آدم وذريته .

 

والمقسم عليه قوله :

*لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ*

يحتمل أن المراد بذلك ما يكابده ويقاسيه من الشدائد في الدنيا ، وفي البرزخ ، ويوم يقوم الأشهاد ،

وأنه ينبغي له أن يسعى في عمل يريحه من هذه الشدائد ، ويوجب له الفرح والسرور الدائم .

وإن لم يفعل ، فإنه لا يزال يكابد العذاب الشديد أبد الآباد .

ويحتمل أن المعنى :

لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، وأقوم خلقة ، مقدر على التصرف والأعمال الشديدة ، ومع ذلك ،

[ فإنه ] لم يشكر الله على هذه النعمة [ العظيمة ] ،

بل بطر بالعافية وتجبر على خالقه ، فحسب بجهله وظلمه أن هذه الحال ستدوم له ، وأن سلطان تصرفه لا ينعزل ، ولهذا قال تعالى :

*أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ*

ويطغى ويفتخر بما أنفق من الأموال على شهوات نفس فـ

*يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا*

أي : كثيًرا ، بعضه فوق بعض .

وسمى الله تعالى الإنفاق في الشهوات والمعاصي إهلاكًا ، لأنه لا ينتفع المنفق بما أنفق ، ولا يعود عليه من إنفاقه إلا الندم والخسار والتعب والقلة ، لا كمن أنفق في مرضاة الله في سبيل الخير ، فإن هذا قد تاجر مع الله ، وربح أضعاف أضعاف ما أنفق .

 

قال الله متوعدًا هذا الذي يفتخر بما أنفق في الشهوات :

*أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ*

أي : أيحسب في فعله هذا ، أن الله لا يراه ويحاسبه على الصغير والكبير ؟

بل قد رآه الله ، وحفظ عليه أعماله ، ووكل به الكرام الكاتبين ، لكل ما عمله من خير وشر .

 

ثم قرره بنعمه ، فقال :

*أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ*

للجمال والبصر والنطق ، وغير ذلك من المنافع الضرورية فيها ، فهذه نعم الدنيا ، ثم قال في نعم الدين :

*وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن*

أي : طريقي الخير والشر ، بينا له الهدى من الضلال ، والرشد من الغي .

 

فهذه المنن الجزيلة ، تقتضي من العبد أن يقوم بحقوق الله ، ويشكر الله على نعمه ، وأن لا يستعين بها على معاصيه ، ولكن هذا الإنسان لم يفعل ذلك .

 

*فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ*

أي : لم يقتحمها ويعبر عليها ، لأنه متبع لشهواته .

 

وهذه العقبة شديدة عليه ، ثم فسر [ هذه ] العقبة بقوله :

*فَكُّ رَقَبَةٍ*

أي : فكها من الرق ، بعتقها أو مساعدتها على أداء كتابتها ، ومن باب أولى فكاك الأسير المسلم عند الكفار .

 

*أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ*

أي : مجاعة شديدة ، بأن يطعم وقت الحاجة أشد الناس حاجة .

 

*يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ*

أي : جامعًا بين كونه يتيمًا ، فقيرًا ذا قرابة .

 

*أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ*

أي : قد لزق بالتراب من الحاجة والضرورة .

 

*ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا*

أي : آمنوا بقلوبهم بما يجب الإيمان به ، وعملوا الصالحات بجوارحهم .

من كل قول وفعل واجب أو مستحب .

*وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ*

على طاعة الله وعن معصيته ، وعلى أقدار الله المؤلمة بأن يحث بعضهم بعضًا على الانقياد لذلك ، والإتيان به كاملا منشرحًا به الصدر ، مطمئنة به النفس .

 

*وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ*

للخلق ، من إعطاء محتاجهم ، وتعليم جاهلهم ، والقيام بما يحتاجون إليه من جميع الوجوه ، ومساعدتهم على المصالح الدينية والدنيوية ، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه ، ويكره لهم ما يكره لنفسه ، أولئك الذين قاموا بهذه الأوصاف ، الذين وفقهم الله لاقتحام هذه العقبة

*أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ*

لأنهم أدوا ما أمر الله به من حقوقه وحقوق عباده ، وتركوا ما نهوا عنه ،

وهذا عنوان السعادة وعلامتها .

 

*وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا*

بأن نبذوا هذه الأمور وراء ظهورهم، فلم يصدقوا بالله ، (ولا آمنوا به) ، ولا عملوا صالحًا ، ولا رحموا عباد الله ،

*والذين كفروا بآياتنا همْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَة ، عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ*

أي : مغلقة ، في عمد ممددة ، قد مدت من ورائها ، لئلا تنفتح أبوابها ، حتى يكونوا في ضيق وهم وشدة .