10 ربيع أول, 1446

تحديد سن النكاح في الشريعة والقانون
(إنكاح القاصرات تطبيقا)
دراسة مقارنة
الدكتور
 نايف بن جمعان الجريدان
أستاذ مساعد في قسم الأنظمة بجامعة نجران
الملخص
 
تدور هذه الدراسة حول مسألة معاصرة، متجددٌ الجدلَ حولها في كثير من المجتمعات العربية في هذا الزمان، وهي: (تحديد سن معين للنكاح وحكم إنكاح وتزويج القاصرات)،  ويُعد هذا البحث من البحوث التي جمعت بين التنظير والتأصيل والتطبيق، حيث جيء بذكر أصل لمسألة فقهية دقيقة، تطرق إليها الفقهاء عرضا في كتبهم عند الحديث عن أركان وشروط النكاح، وتم إلحاق فرع معاصر، يُعد تطبيقا مباشرا وواقعيا لهذه المسألة، باعتماد المنهج الاستقرائي الوصفي المقارن الذي يعتمد على عرض المسألة في الرأيين الفقهي والقانوني، وعرض الأقوال الفقهية والنصوص القانونية، واستقرائها ومقارنتها.
وأبرز البحث عددا من النتائج المهمة المتمثلة في إبطال تقنين تحديد سن معينة للنكاح الذي نُص عليه في أغلب قوانين الدول العربية، وإلى جواز إنكاح القاصرات بشروط وضوابط، منها: أن تكون هذه الزيجة لمصلحتها، وبعد استكمال شروط صحة النكاح. وبطلان تزويج الأب لابنته القاصرة إذا كان ذلك التزويج لمصلحته الشخصية. وتقرير مسألة عدم تلازم العقد والخلوة والوطء، فقد يتم إنكاح قاصرة وهي في المهد ولا يدخل بها إلا بعد بلوغها. وقصر حق تزويج القاصرات على الأب والجد فقط، بشرط تأكد القاضي من كونهما حريصين على مصلحتها.
وانتهى البحث بالتوصية إلى أنه إن وصلت مسألة تحديد سن معين للنكاح مرحلة الضرورة وكان أمر إجباريا من بعض الأنظمة والقوانين أن يتم تحديده بخمس عشرة سنة؛ لأنها سن البلوغ المتفق عليها في حق الرجال والنساء، وبه تبلغ المرأة مبلغ الكبيرات، وتتطلع فيه للزواج، ولأن المبالغة في الأمر بمنعه قبل الثامنة عشرة قد يسهم في نشر الفواحش والمنكرات والعلاقات الجنسية المحرمة.
وأن التزويج قبل سن الخامسة عشرة لا مانع منه شرعا، لكن يكون ذلك بموافقة المحكمة الشرعية، وبعد تأكد القاضي أن الزوج لن يدخل بها إلا في حال إطاقتها للوطء وقدرتها على تحمل تبعات النكاح.

3 / 47
 
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره وسنَّ بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد جاء الإسلام بتكريم المرأة بنتاً وأماً وزوجة، ومن تكريمه لها أن شرع عقد النكاح شراكة بينها وبين الرجل، تتحقق به أهداف سامية، لذا نجد الإسلام يحث على النكاح، وسماه الله -عز وجل- بالميثاق الغليظ -أي: العهد المؤكد باليمين- فقال سبحانه: ] وأخذنَ منكم ميثاقاً غليظاً[ [النساء:21]، واهتمت الشريعة الإسلامية به، فأحاطته بسياج حصين، وسور متين، وحرصت على توثيقه، فحددت الأركان، والشروط التي لا بد من توافرها لصحة النكاح وانعقاده، ولزومه، ونفاذه.
وقد كثر الجدل في هذا الزمان حول مسألة تحديد سن معين للنكاح، والحديث عن إنكاح القاصرات، مما أدى إلى تجريم من يزوج ابنته وهي صغيرة بالظلم والجرم، بل وتعدى هذا الاتهام إلى النيل من الشريعة ووصمها بأبشع الصفات وأقبحها، وظهرت قوانين وضعية تحدد سن النكاح، ومن يزوج ابنته دونه يعتبر مجرماً مخالفاً للقانون وضد حقوق المرأة، فكان لزامًا بيان الحكم الشرعي في ذلك، وإظهاره، لذا آثرت الكتابة في هذا الموضوع، وقد عنونت له بـ (تحديد سن النكاح في الشريعة والقانون، إنكاح القاصرات تطبيقا، دراسة مقارنة).
أهمية البحث:
تظهر أهمية البحث في النقاط التالية:
  • 1. أن هذا الموضوع من المواضيع والمسائل المتجدد الجدل حولها في كثير من المجتمعات العربية، يصل الأمر إلى وصمها بأنها مما تعم به البلوى، الأمر الذي يحتاج إلى بيان وتفصيل.
  • 2. يعد هذا البحث من البحوث التي جمعت بين التنظير والتأصيل والتطبيق، حيث جيء بذكر أصل لمسألة فقهية دقيقة، تطرق إليها الفقهاء عرضا في كتبهم عند الحديث عن أركان وشروط النكاح، وتم إلحاق فرع معاصر، يعد تطبيقا مباشرا وواقعيا لهذه المسألة.
  • 3. تظهر أهمية هذا البحث كونه يقدم المقارنة بين الشريعة والقوانين الوضعية في مسألة تحديد سن النكاح، وأحكام إنكاح القاصرات، بل والتطرق لآراء المختصين في علم النفس والاجتماع والطب ومناقشتها المناقشة العلمية.
  • 4. ما تحمله هذه المسألة من آثار سلبية (اجتماعية وصحية ونفسية) مما يُؤكد أهمية إظهار حكمها وبيانه للناس.
  • 5. تزويد المكتبة الشرعية والقانونية بدراسة علمية منهجية وتأصيلية لهذا الموضوع.

4 / 47
منهج البحث:
اعتمدت في إعداد هذا البحث على المنهج الاستقرائي الوصفي الذي يعتمد على عرض المسألة في الرأيين الفقهي والقانوني، وعرض الأقوال الفقهية والنصوص القانونية، واستقرائها ومقارنتها، مناقشا لأدلة وآراء كل قول منها، وناقدا بعضها، ومحللا لها، ومبينا القول الراجح وسبب الترجيح، مستشهدا ومسترشدا بما ذكره أصحاب فنون العلوم المختلفة ذات الصلة في القضية: (الآراء: الطبية والنفسية والاجتماعية والإعلامية).
وإذا كانت المقارنة  تقتضي عادة التماثل أو التشابه بين شيئين بغرض المفاضلة بينهما، فليس هذا منطلقي في المقارنة، فشريعة الخالق جلت أن تقارن بشريعة المخلوق، وإنما أردت بيان حكم الشريعة الإسلامية وما جاءت به الأنظمة والقوانين، لتظهر محاسن الشريعة، ويتضح تفوقها على القوانين والأنظمة. وقد خصصت المقارنة بما ذُكر في أغلب قوانين الأحوال الشخصية في أغلب الدول العربية، ثم حاولت نقدها وذكر الرأي السديد في ذلك.
خطة البحث:
وقد اشتملت خطة البحث على فصلين، أحدهما في الجانب التأصيلي والآخر في الجانب التطبيقي، على النحو التالي:
الفصل الأول: الجانب التأصيلي
واشتمل على ثلاثة مباحث
المبحث الأول: تأصيل مفاهيم البحث ومصطلحاته
واشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: مفهوم النكاح وحقيقته.
المطلب الثاني: مفهوم القاصرات دلالته ومعانيه.
المبحث الثاني: التأصيل الشرعي لمسألة تحديد سن معين للنكاح
واشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: تحديد سن النكاح في نصوص الشريعة.
المطلب الثاني: معايير تحديد سن النكاح عند الفقهاء.
المبحث الثالث: التأصيل الشرعي لمسألة إنكاح القاصرات.
الفصل الثاني: الجانب التطبيقي
واشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: إنكاح القاصرات في رأي فقهاء الشريعة الإسلامية.

5 / 47
واشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: أقوال الفقهاء في حكم إنكاح القاصرات.
المطلب الثاني: المناقشات والترجيح.
المبحث الثاني: إنكاح القاصرات في رأي الأنظمة والقوانين الوضعية.
واشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: رأي القانون الوضعي في إنكاح القاصرات.
المطلب الثاني: مناقشة القوانين الوضعية التي حددت سن الزواج.
 
ثم ذيلت البحث بخاتمة بينت فيها ما تم التوصل إليه من نتائج وأهم التوصيات.
والباحث يسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم وينفع به كاتبه وقارئه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

6 / 47
 
الفصل الأول
الجانب التأصيلي
 
المبحث الأول
تأصيل مفاهيم البحث ومصطلحاته
 
المطلب الأول: مفهوم النكاح وحقيقته
أولا: تعريف النكاح لغة(1)
النكاح في اللغة مصدر مشتق من الفعل الثلاثي نكح، وهو يأتي بمعنى التزويج والوطء، يقال: نكح فلان امرأة ينكحها نكاحاً إذا تزوجها. ونكحها ينكحها: باضعها أيضاً، ولا يعرف شيء من ذكر النكاح في كتاب الله تعالى إلا على معنى التزويج، قال تعالى: ]وأنكحوا الأيامى منكم [ [سورة النور:32] فهذا تزويج لا شك فيه وقال تعالى: ]يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات [ [سورة الأحزاب:49].
قال الأزهري : أصل النكاح في كلام العرب الوطء، وقيل للتزوج نكاح؛ لأنه سبب الوطء المباح(2).
والنكاح: كناية عن الجماع، يقال: نكح المرأة وأنكحها غيره، وفي التنزيل العزيز: ]فانكحوا ما طاب لكم من النساء[ [سورة النساء:3].
قال الفيروز آبادي : “النكاح : الوطء والعقد له”(3).
وقال الزبيدي: “النكاح بالكسر في كلام العرب: الوطء في الأصل، وقيل: هو العقد له، وهو التزويج؛ لأنه سبب للوطء المباح(4).
ومعرفة حقيقة النكاح من الأهمية بمكان في مسألة إنكاح القاصرات كما سيأتي ذكره في تحرير محل النزاع فيها، لذلك فإن أهم ما قيل في حقيقة النكاح لغة يمكن حصره في أربعة أقوال:
الأول: أنه حقيقة في الوطء، مجاز في عقد التزويج. وعلى هذا يدل كلام الأزهري والزبيدي السابق ذكره.
الثاني: أن النكاح حقيقة في كل من الوطء وعقد التزويج، أي مشترك لفظي كما يدل قول الفيروز آبادي السابق.
الثالث: أنه حقيقة في العقد، مجاز في الوطء. وهذا المعنى الشرعي أوضح منه في المعنى اللغوي كما سيأتي ذكره(5).
الرابع: أنه حقيقة في الجمع والضم والتداخل سواء كان حسياً أو معنوياً.

7 / 47
وأجمل ما قيل في معناه ما نقله المرداوي عن الشيخ تقي الدين رحمهما الله قوله: “معناه في اللغة: الجمع والضم على أتم الوجوه، فإن كان اجتماعاً بالأبدان فهو الإيلاج الذي ليس بعده غاية في اجتماع البدنين، وإن كان اجتماعاً بالعقود فهو الجمع بينهما على الدوام واللزوم، ولهذا يقال : استنكحه المذي إذا لازمه وداومه”(6).
 
أولا: تعريف النكاح في الاصطلاح: اختلفت أقوال الفقهاء في حقيقة النكاح شرعاً، ولعل من أبرز ما قيل في حقيقته ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه حقيقة(7) في عقد التزويج دون الوطء، وهو الراجح من مذهب الشافعية والحنابلة وهو قول عند المالكية(8). جاء في نهاية المحتاج: بأن النكاح حقيقة في العقد مجاز(9) في الوطء، ولاستحالة أن يكون حقيقة فيه لصحة نفيه عنه(10).
وجاء في الإنصاف : أن النكاح حقيقة في العقد مجاز في الوطء على الصحيح(11).
القول الثاني : إنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد، وهو المذهب عند الحنفية(12).
جاء في البناية : بأن النكاح حقيقة في الوطء، مجاز في العقد(13).
القول الثالث : إنه حقيقة في كل من الوطء والعقد. ومعنى ذلك أنه لفظ مشترك يحتمل المعنيين، ويتوصل إلى المقصود من هذا اللفظ بالقرينة، وهو قول لبعض الحنابلة(14)، ووجه عند الشافعية(15).
يقول الحافظ في الفتح: “وهذا الذي يترجح في نظري وإن كان أكثر ما يستعمل في العقد”(16) أي القول بالاشتراك اللفظي.
وخلاصة القول في التعريف الاصطلاحي للنكاح: أن النكاح إذا أطلق لا ينصرف إلا إلى التزويج، أما حقيقة النكاح في اللغة والشرع، وهل النكاح حقيقة في العقد مجاز في الوطء؟، أم العكس؟، وهل حقيقة فيهما معاً على الاشتراك أم غير ذلك؟ فالمسألة خلافية فيها أقوال كما مضى.
والذي يترجح أن النكاح هو عقد الزوجية الصحيح، وإن لم يحصل وطء أو خلوة، وهذا الضابط الذي سرت عليه في تخريج تحرير محل النزاع في مسألة حكم إنكاح القاصرات، كما سيأتي ذكره(17).
 
المطلب الثاني: مفهوم القاصرات دلالته ومعانيه
أولا: تعريف القاصرات في اللغة:
المتتبع لكلمة (قاصرة) في كتب اللغة، يجد أن أغلب اللغويين يذكرها تحت مادة (قصر)، التي تعني هي مصدر قصرت له من قيده أقصر قصراً.  وقصر الشيء، بالضم، يقصر قصراً: خلاف طال؛ وقصرت من الصلاة أقصر قصراً. والقصير: خلاف الطويل، ويستشهدون بقوله تعالى: ]حور مقصورات في الخيام[ [الرحمن:72]، أي محبوسات في خيام من الدر مخدرات على أزواجهن في الجنات؛ وامرأة مقصورة أي

8 / 47
مخدرة. وقال الفراء في تفسير مقصورات، قال: قصرن على أزواجهن أي حبسن فلا يردن غيرهم ولا يطمحن إلى من سواهم(18).
عدا ما ذكره صاحب المعجم من أن القاصرة في اللغة من لم تبلغ سن الرشد، حيث قال: “يقال امرأة قاصرة الطرف خجلة حيية … والفتاة لم تبلغ سن الرشد”(19).
ثانيا: تعريف القاصرة في الاصطلاح:
المتصفح لكتب الفقهاء قديماً لا يجد هذا اللفظ (قاصرة،)، منصوص عليه في كتبهم،  وعند الحديث عن هذا الموضوع يوردون الكلام فيه تحت عنوان: زواج الصغيرة، أو التي لم تبلغ، وينصون بهذا اللفظ (الصغيرة)، والمتتبع لما نصوا عليه يجدهم يذكرون لفظ (قاصر)، ويضيفون القصور لصفة معينة، فتارة يقولون قاصر العقل(20)، أو قاصر الأهلية(21)، ويقولون: “لا مصلحة في تزويج قاصر”(22)، ونحو ذلك.
وقد اشتهر هذا المصطلح (قاصرة) في عصرنا الحاضر مع الموجة الإعلامية التي شنت هجوماً على هذا النوع من الزيجات، التي تجيز إنكاح البنت والفتاة الصغيرة، التي لم تبلغ سن الرشد –كما ذكرنا في التعريف اللغوي- فعند القول (إنكاح القاصرات) يتوجه الفهم إلى المعنى اللغوي السابق وهو من لم يبلغ سن الرشد.

9 / 47
 
المبحث الثاني
التأصيل الشرعي لمسألة تحديد سن معين للنكاح
 
المطلب الأول: تحديد سن النكاح في نصوص الشريعة
المتتبع للنصوص الشرعية من الكتاب والسنة لا يكاد يجد نصًا صريحًا على تحديد سن معين للنكاح، بل نجد أن الأمر ترك لتقدير المصالح المترتبة على ذلك، كما نص على ذلك النووي –رحمه الله-؛ لكون التبكير بتزويج الفتاة قبل بلوغها قد يكون فيه مصلحة لها، وقد لا يكون كذلك.
قال النووي –رحمه الله-: “اعلم أن الشافعي وأصحابه قالوا: ويستحب ألا يزوج الأب والجد البكر حتى تبلغ، ويستأذنها لئلا يوقعها في أسر الزوج وهي كارهة، وهذا الذي قالوه لا يخالف حديث عائشة؛ لأن مرادهم أنه لا يزوجها قبل البلوغ إذا لم تكن مصلحة ظاهرة يخاف فواتها بالتأخير كحديث عائشة، فيستحب تحصيل ذلك الزوج؛ لأن الأب مأمور بمصلحة ولده فلا يفوتها”(23).
ثم قال -رحمه الله-: “أما وقت زفاف الصغيرة المزوجة والدخول بها فإن اتفق الزوج والولي على شيء لا ضرر فيه على الصغيرة عمل به، وإن اختلفا.. فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: حد ذلك أن تطيق الجماع، ويختلف ذلك باختلافهن، ولا يضبط بسن. وهذا هو الصحيح”(24).
ونجد في نصوص أخرى الحث على التبكير بالزواج كما ورد في حديث عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء”(25)، ونجد الشارع يميل إلى التبكير بتزويج الفتاة إذا جاءها الكفؤ، كما ورد عن علي بن أبي طالب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: “يا علي ثلاث لا تؤخر الصلاة إذا آنت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفئاً”(26). والحديث وإن ضعفه الألباني في جميع كتبه، إلا أن كثيراً من العلماء قد صححه واحتج به، كالعلامة العيني والمناوي والطيبي، وغيرهم، والعقل وعموم الشرع يدلان على تحصيل المصلحة وعدم جواز تفويتها.
ومن خلال هذا يتضح أن الشريعة الإسلامية لم تحدد سناً معيناً وإنما تركت ذلك خاضعاً لمؤهلات الزوجين الجسمية والجنسية والفعلية، ويختلف ذلك باختلافهم، ولا يضبط بسن محدد فالبلوغ -كما يقول الشاطبي -رحمه الله- تعتبر فيه: “عوائد الناس من الاحتلام أو الحيض أو بلوغ سن من يحتلم أو من تحيض، وكذلك الحيض يعتبر فيه إما عوائد الناس بإطلاق، أو عوائد لدات المرأة وقرابتها أو نحو ذلك، فيحكم لهم شرعاً مقتضى العادة في ذلك الانتقال… وقد لا يكون الاختلاف من أوجه غير هذه  ومع ذلك فالمعتبر فيها من جهة الشرع أنفس تلك العادات، وعليها تتنزل أحكامه؛ لأن الشرع إنما جاء بأمور معتادة

10 / 47
جارية على أمور معتادة”(27).، فالشاطبي يقرر أن السن من العوائد وما كان من هذا الأخير فهو قابل للتغيير حسب ما تقتضيه مصلحة المجتمع والأفراد، ولذا نجد الفقهاء قد اختلفوا في ذلك.
 
المطلب الثاني: معايير تحديد سن النكاح عند الفقهاء
والفقهاء جعلوا لتحديد سن أهلية الزواج معيارين:
الأول: المعيار الشخصي: الذي يظهر من واقع كل حالة حيث تظهر علاماته، وتختلف بحسب الذكورة والأنوثة.
الثاني: المعيار الموضوعي: بتحديد سن معينة متى بلغ المعني ذلك السن كان كافياً في اعتباره بالغاً ومؤهلاً للزواج.
جاء في بدائع الصنائع: “البلوغ في الغلام يعرف بالاحتلام… وفي الجارية يعرف بالحيض فإذا لم يوجد من ذلك فيعتبر بالسن…
وقد اختلف العلماء في أدنى السن التي يتعلق بها البلوغ، قال أبو حنيفة ثماني عشرة سنة في الغلام، وسبع عشرة في الجارية، وقال الإمام الشافعي والقاضي أبو يوسف-رحمهما الله-: خمسة عشرة سنة في الجارية والغلام جميعاً”(28).
والمالكية يرون أن الحد الأقصى لبلوغ الذكر والأنثى هو بلوغ الثامنة عشرة من العمر(29).
وجاء عند الشافعية كما في الأم: “فلما كان من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الجهاد يكون على ابن خمس عشرة سنة وأخذ المسلمون بذلك في الحدود وحكم الله بذلك في اليتامى فقال: ]حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا[ [النساء: 6]، ولم يكن له الأمر في نفسه إلا ابن خمس عشرة سنة أو ابنة خمس عشرة إلا أن يبلغ الحلم أو الجارية المحيض…”(30). وأضاف قائلاً: “والبلوغ أن تحيض أو تستكمل خمس عشرة سنة…”(31).
فالبلوغ عند الشافعي -رحمه الله- يكون باستكمال خمس عشرة سنة، الذكر والأنثى في ذلك سواء ما لم يحتلم الذكر وتحيض الأنثى قبل ذلك السن.
هكذا نجد الفقهاء يربطون أهلية الزواج بعلامات تدل على قدرة الفتى والفتاة على التناسل، وعند تأخر هذه العلامات حددوا لذلك سناً يعتبر حداً أدنى يختلف حسب المذاهب الفقهية -كما تقدم- وذلك منهم مراعاة لبيئتهم، ومجتمعهم الذي يعيشون فيه مع العلم أن “أقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين؛ لأن المرجع فيه إلى الموجود، وقد وجد من تحيض لتسع… وسن البلوغ في الغالب إذا لم تحض المرأة باتفاق المذاهب خمس عشرة سنة، وحصول البلوغ هو في الواقع إعلان طبيعي لأهلية الشخص واستعداده الفيزيولوجي والنفسي للزواج.

11 / 47
ويرى بعض العلماء المعاصرين(32) أن تحديد سن معينٍ للزواج أمر غير مقبول عقلا ولا شرعا، وذلك لاختلاف سن البلوغ من فتاة لأخرى، ولهذا فإن لكل حالة حكمها المستقل بها، وأن وجود قانون لتحديد سن الزواج مرفوض؛ لأنه في هذه الحالة سيكون قد منع حلالاً، ولا شيء في مخالفته أو الخروج عليه، ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة في الزواج  بعائشة رضي الله عنها وهي بنت التاسعة؛ لأن جسدها قد نضج في البيئة الصحراوية في هذه السن المبكرة، وأن المهم في الأمر عندهم أن تكون الفتاة مهيأة للزواج، بصرف النظر عن سنها، وبالتالي فإن ولي أمرها يكون آثماً شرعاً إذا عطّل زواجها بحجة أنها لم تبلغ سناً معينة.
وبهذا يعلم أنه لم يأتِ في الشرع تحديد سن الزواج ابتداءً وانتهاءً، فللرجل أن يتزوج الصغيرة، وله أن يتزوج الكبيرة ولو تباعد ما بينهما في السن، والرجال والنساء يتفاوتون في البلوغ سرعةً وتأخراً، وذكر كثير من العلماء أن البلوغ بالسنين يكون بخمس عشرة سنة وأنه العلامة الواضحة للحد الفاصل بين الصغير والكبير من الرجال والنساء، وأنه قد يحصل البلوغ قبله بعلامات خفية كالاحتلام، ونبات شعر خشن حول القبل، والحيض للفتاة، وأن من حصل له شيء من ذلك قبل سن الخامسة عشرة فهو بالغ.
وقد أثبت بحث قانوني تم إجراؤه على التشريعات العربية فيما يتعلق بتحديد سن الزواج للأنثى، بأن جميع الدول العربية تقريباً لديها تشريعات وطنية تحدد سناً آمناً للزواج، وبخاصة تزويج الأنثى، مع تفاوت بسيط في مقدار العمر(33).